فصل من رواية "كشف هيئة" للكاتب على سيد

السبت، 23 مايو 2009 10:25 م
فصل من رواية "كشف هيئة" للكاتب على سيد رواية "كشف هيئة" للكاتب على السيد تصدر قريباً

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رواية "كشف هيئة" لعلى سيد هى العمل الأول الذى يصدر للكاتب، وتدور أحداثها حول شاب يعمل بإحدى الهيئات الحكومية متعرضاً للكثير من المواقف التى تعكس تطورات الشخصية المصرية فى الآونة الأخيرة، وتأثير الكبت السياسى والجنسى على أحوال الشباب. اليوم السابع ينشر فصلاً من هذه الرواية التى ستصدر قريباً عن دار ملامح للنشر...

كشف هيئة
وقفت أمام الباب الحديدى للمشرحة الذى كتب عليه: "ممنوع الدخول لغير العاملين" اقتربت من العسكرى الجالس بجواره، ألقيت عليه السلام، رد على بلا مبالاة، أخرجت من جيبى علبة السجائر المارلبورو، ناولته واحدة، فانتفض واقفًا يشكرنى بامتنان، طلبت منه أن ينادى على الحانوتى بالداخل، أتانى الرجل يسألنى: أى خدمة يا أستاذ؟

دسست فى جيب البالطو الأبيض الذى يرتديه عشرين جنيهًا وأنا أطلب منه سرعة الانتهاء من الجثة التى وصلت منذ خمس دقائق.
يا أستاذ من غير حاجة .. الجثة لو قعدت يوم كمان هيطلع فيها الدود حتى لو كانت فى التلاجة.. اطمن .. ساعة بالكتير وهتخرج مع تصريح دفنها.
كان وقت صلاة الظهر اقترب عندما خرجت جثة مديحة.. أثارنى منظر ركبتيها اللتين ما زالتا مرتفعتين فسألت الحانوتى – الذى ظننته لم يقم بالواجب تجاهها رغم العشرين جنيها – عن سبب هذا الارتفاع، أخبرنى بلسان العالم الخبير بكل دقائق مهنته أن المرحومة ماتت وهى جالسة مثنية ركبتيها تحتها، أو ربما كانت تطيل السجود فماتت وهى ساجدة فتيبس جسدها على هذا الوضع. رجحت أنا الاحتمال الثانى وارتحت لتفسيره.

لا أدرى من أين أتى كل هؤلاء الناس الذين حملوا النعش معنا فى طريقنا إلى المسجد، حتى إننى كنت أحمله بذراع واحد بسبب شدة الزحام، ويأتينى من وقت إلى آخر من يقول لى "آجرنى يا أخي" فيزحزحنى بعيدًا، فأدرك أنا أن من يحمله له أجر عظيم، فأهرول إلى أى شخص أزحزحه وأنا أقول له: "آجرنى يا أخي".. دخلنا المسجد .. توضأت .. بعد أن أنهى الإمام صلاة الظهر دعا المصلين إلى صلاة الجنازة قائلا: "صلاة الجنازة صلاة لا ركوع لها أو سجود، أربع تكبيرات: فى التكبيرة الأولى تقرأ الفاتحة، فى التكبيرة الثانية تقرأ النصف الثانى من التشهد (اللهم صل على محمد ...) فى التكبيرة الثالثة تدعو للمتوفاة وفى التكبيرة الرابعة تدعو لك ولسائر المسلمين ..

خرجنا من المسجد حاملين النعش وصبرى بمقدمته ليقودنا إلى المقبرة التى تم تجهيزها لاستقبال (الأمانة).. هكذا أطلق عليها (التُرَبي) الواقف على سلم خشبى أسفل المقبرة عندما أطلَّ برأسه من فوهتها وقال لنا: "ناولونى الأمانة". حملها اثنان وناولاها له فأسندها بوضعها الرأسى ليلتقطها مساعده المنتظر أسفل المقبرة ليوارياها التراب.

أدهشنى حامد وفاجأنى عندما بدأ يلقى خطبة عن الموت وعن الاتعاظ والعبرة من هذا الموقف الجلل، كان يتحدث بفصاحة أخذت أسماع الواقفين، زال اندهاشى عندما تذكرت تعليمه الأزهرى وحفظه للقرآن الكريم الذى أثر ولا شك فى تقويم لسانه. بدأ يدعو للمرحومة مديحة: "اللهم اغفر لها وارحمها .. اللهم تجاوز عن سيئاتها إن كانت مسيئة .. اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار .. اللهم اسقها من يد نبيك شربة هنيئة لا تظمأ بعدها أبدًا...".

كنا نردد وراءه "آمين". عندما قال: "اللهم أبدلها فى الآخرة أهلا خيرًا من أهلها" قلت فى نفسي: اللهم اجعل أهلها عبد الحليم حافظ.

عندما انتهينا كانت الساعة الثانية والنصف ظهرًا، وأمامنا نصف ساعة تكفى لعودتنا لنلحق بتوقيع الانصراف، أوقفنا سيارة أجرة، جلس صبرى بجوار سائقها، وجلست أنا بجوار حامد بالكرسى الخلفى، كنا صامتين تأثرًا وحزنًا على ما حدث لمديحة.

بلغ بى التأثر إلى درجة أن قررت المواظبة على الصلاة وألا أضيع فرضًا واحدًا منها، وأن أمتنع عن التدخين نهائيًا. وألا أمارس العادة السرية أبدًا، وألا ألمس كتف فتاة فى الميكروباص، وأن أحاول أن أجد عملا آخر غير الشيشة الذى يجبرنى على تدخينها ومشاهدة البطون العارية للفتيات المراهقات، ولكن لن أتركه قبل أن أستلم العمل الجديد، فخطوبتى لناهد ألزمتنى بأشياء لا أستطيع الإخلال بها.

اعتاد حامد أن يوقع لى صباح كل يوم فى الحضور، وإما أن أجيء ظهرًا لأوقع فى الانصراف وأذهب إلى المقهى، أو لا أجيء فيوقع لى فى الانصراف أيضًا، نزل حامد وصبرى أمام باب المؤسسة، وطلبت أنا من السائق أن يكمل طريقه حتى شبرا الخيمة بعد أن طلبت من حامد أن يوقع لى وأذهب أنا لآخذ قسطًا من الراحة قبل أن أعاود العمل فى المساء.

فى المنزل بدلت ملابسى التى تشبعت برائحة الموت بعد أن استحممت، حاولت النوم فلم أستطع، رن هاتفى المحمول، كانت ناهد تطمئن على، سألتنى عما حدث، فلم أحك لها التفاصيل حتى لا أؤذى مشاعرها، اعتدلت وتأهبت للنزول لألحق بموعد عملى بالمقهى، عندما أغلقت باب المنزل ورائى تذكرت صلاة العصر التى فاتتنى، أشعلت سيجارة كعادتى عندما أخرج من المنزل، ركبت الميكروباص المتجه إلى ميدان المظلات، فمن هناك توجد أكثر من وسيلة للوصول إلى مصر الجديدة، جاءت جلستى بجانب فتاة ترتدى (تيشرتًا) ملتصقًا بجسدها، ملأت خياشيمى رائحة بارفانها، لم يكن هناك بدٌّ من أن ألامس ذراعها، فانتشيت من طراوة ملمسه وتنفست بعمق، وعلى الرغم من أننى لم أمسك منها شيئًا إلا أننى أحسست باقتراب لحظة الارتعاش لولا وقوف الميكروباص منتظرًا نزول من فيه من الركاب، فلسوء حظى المسافة لا تستغرق أكثر من سبع دقائق، نزلت وراءها وأنا أفكر فى جملة مناسبة أقولها لها فتجبرها على الرد ومن ثَمَّ فتح حوار بيننا ينتهى بتعارف، كانت المهمة صعبة علي؛ حيث إننى لم أعاكس أو أعترض طريق فتاة من قبل، مشيت وراءها وقبل أن أنطق بكلمة وجدتها تصافح شابًا ويمشيان معًا، فعدت أدراجى حامدًا لله فضله على، ونجاتى من (عَلْقة) محترمة.

فى المقهى كان أول (أوردر) يأتينى شيشة كانتلوب (بترابيزة 7)، عندما ذهبت بها وجدتها لفتاة بطنها عارية، قلت فى نفسى: "لو كانت اللبوة دى شافت بطن مديحة المنفوخة بعد موتها ما كانتش عرّت بطنها كدا" تذكرت الفتاة التى كانت بجانبى فى الميكروباص فدخلت الحمام لأفرغ توترى الزائد وأكمل ساعات العمل بهدوء.

أخرج من الحمام لأجد عادل جالسًا فى (ترابيزة 3) كعادته، دون انتظار الأوردر الذى سيأخذه (النادل) أذهب إليه بشيشته الكريز.

عادل من الزبائن المحترمة.. يأتى مرتين أو ثلاث فى الأسبوع. فى كل مرة يعطينى خمسة جنيهات على الرغم من أن فاتورته لا تتجاوز الثمانية جنيهات ثمن الشيشة وفنجان القهوة.. دائمًا ما يكون بمفرده، ورغم كونه من أسرة غنية تمتلك الملايين إلا أنه يركب سيارة (فولكس) مما يجعله مادة لسخرية فريق عمل المقهى، خاصة وهو لا يترك أى مليم زيادة على الفاتورة، عندما علموا أنه يترك لى خمسة جنيهات.. بدءوا معى فى سلسلة من الهزار الثقيل، واستغلوا طول شعره وهيئته الغريبة وعدم حديثه مع أحد غيرى، وشهروا بى (على سبيل المزاح) بأنى مرتبط معه بعلاقة شاذة.. كل ما كان بينى وبينه علاقة احترام متبادلة، فقد كبُرت فى نظره عندما علم بتعليمى العالى، واحترمته أنا لا بسبب الجنيهات الخمسة، بل لأنه متواضع، باستطاعته شراء أغلى الماركات العالمية من السيارات، إلا أنه لا يركب إلا الفولكس، قال لى مرة إن فولكس كلمة ألمانية ترجمتها الحرفية (سيارة الشعب) صنعها هتلر بمواصفات معينة لتتحمل الظروف الصعبة، وعرضها للبيع بسعر منخفض بحيث يستطيع أى عامل بسيط شراءها.

عندما ناولنى جريدة (الاشتراكى) التى تصدر عن مركز الدراسات الاشتراكية، شكرته وقبل أن أنصرف فوجئت به يطلب منى جنيهًا ثمن النسخة التى أعطاها لى، أخرجته من جيبى وأنا أتعجب من تصرفه هذا، وهو الذى يترك لى خمسة جنيهات.

فى المنزل أخرجت الجريدة من حقيبتى، نادرًا ما أشترى جريدة، يشترى أبى الأهرام المسائى يوميًّا وأهرام الجمعة، لا أقرأ أنا إلا صفحات الرياضة وصفحة الحوادث، بالطبع لم يكن بجريدة الاشتراكى لا رياضة ولا حوادث، وعلى الرغم من أنى مجهد وفى أشد الحاجة إلى النوم، تصفحت الجريدة ربما بسبب الجنيه الذى دفعته فيها، لم أجد إلا أخبارًا عن الدستور الجديد وتزييف إرادة الشعب، ووصفه بالخازوق الذى يقصم ظهور الشعب الكادح، ومطالبة الشعب بالصمود، حيث إن الحرب لم تنته بعد، فإن انتصرت الحكومة فى معركة فهناك معارك قادمة هى – لا شك – لصالح الشعب.
عندما نظرت إلى الساعة ووجدت أن موعد الكشف الطبى لم يبق له إلا ثلاث ساعات ولم أنم بعد، تذكرت الجملة التى يقولها دومًا أحد أصدقائى وينسبها إلى الإمام محمد عبده:
"لُعنتْ السياسةُ وكلُّ لفظٍ يُشتقُ من السياسة من ساس ويسوس وسائس ومسوس".

فى فناء الكلية الحربية تجمع ثلاثة آلاف ممن تخطوا اختبار القدرات استعدادًا للكشف الطبى.. تم تقسيم هذا العدد إلى مجموعات.. كل مجموعة تضم ثلاثين يقودها جندى معه ملفات المجموعة التى يدخل بها حجرات الكشف تباعًا.. كل حجرة بها طبيبان يقومان بالكشف.

فى البداية بعد أن علم كل واحد رقم مجموعته طلبوا منا أن ندخل غرف تغيير الملابس ونخرج منها عرايا لا يستر جسدنا إلا السروال الداخلى حتى الحذاء منعونا من ارتدائه، دخلت فى صف مجموعتى ثم أخرت نفسى لأسير فى آخر الصف لشعورى بالخجل من هذا السروال الداخلى الصغير الضيق الذى ارتديته فى الصباح ولم يكن يخطر فى ذهنى أن أحدًا سيراه.. فربما يقف ورائى شخص له ميول فريد.. ما طمأننى أن الوقت كان لا يزال فى الصباح الباكر فى اليوم الرابع من شهر يناير فالكل يرتعش دون إرادة.. وفى مثل هذا الجو تخمد أية رغبة جنسية.. شعرت بوخزات البرد القارس المنبعثة من البلاط لباطن قدمى كالكرابيج..

كانت أول غرفة يدخلها الجندى – ونحن وراءه – غرفة الجراحة .. كان بها طبيبان، وقفنا صفًّا طويلا أمام أحدهما الذى أخذ ينظر إلى كل واحد منا نظرة فاحصة على كل جسده وكأنه يبحث عن شيء ثم يشير إليه بالدخول إلى ما وراء الستارة التى يجلس خلفها الطبيب الآخر، لم أكن أعلم ما يحدث وراءها، لم أسمع إلا صوت سعال، عندما دخلت طلب منى الطبيب أن أعطيه ظهرى ثم بحركة مباغتة شد السروال لأسفل كاشفًا عن مؤخرتى.. أحسست أننى فقدت شرفى وكرامتى وخاصة أن الطبيب كان يرتدى قفازا بلاستيكيا ليوسع بأصابعه ما بين شق مؤخرتى كاشفًا عن فتحة شرجى، بعد هذه العملية المخزية طلب منى أن أستدير لمواجهته، بمجرد أن فعلت قبض على خصيتى، فانقبض قلبى.. طلب منى أن أسعل فسعلت وأنا لا أعلم جدوى هذه الحركات الإباحية وعلاقة السعال بالخصية.

انتهينا من غرفة الجراحة، ولاحظت أن الجندى أعطى لثلاثة منا ملفاتهم، أشار إليهم بارتداء ملابسهم ثم التوجه إلى مكان ما ليسلموا الملفات، وهذا يعنى رسوبهم فى الكشف الطبى. دخلنا بعدها غرفة العظام.. طلب منا الطبيب أن نرفع أيدينا بمحاذاة أكتافنا إلى الأمام.. ثم إلى أعلى.. ثم طلب منا أن نجلس القرفصاء.. لم يستغرق الكشف أكثر من ثلاثة دقائق خرجنا بعدها لأجد المجموعة تقلصت أكثر من ذى قبل، ثم توالى دخولنا إلى غرف الكشف المختلفة: عيون.. باطنة.. جلدية.

عندما وصلنا أمام غرفة الصدر ورسم القلب كنا خمسة، أخبرنا الجندى أنه الكشف الأخير، توقعت بعد هذا الكشف أن يعطينى الجندى ملفى، فليس مألوفًا بالنسبة لى أن يحالفنى الحظ فى الأمور المصيرية فى حياتى.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة