دنقل كان يرى جنود جيش الدفاع تدك غزة

الخميس، 21 مايو 2009 11:30 ص
دنقل كان يرى جنود جيش الدفاع تدك غزة بقلم الشاعر محمد منصور

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ربما كان بينه وبين الصلح ثأرٌ قديم. فنصحنا بألا نصالح. لأننا إن كنا مؤمنين بأن الصلح خير.. وكفى، فإنه قد آمن بأن الصلح خيرٌ شريطةَ أن يكون صلحًا على خير. أما إذا كان صلحًا على شرٍّ فإنه -فى هذه الحالة- ليس إلا شرًّا بالضرورة.
ولذا، فإنه ظل يصرخ فى المتصالح على الشر قائلاً: لا تصالح، فما الصلح إلا معاهدة بين ندَّين "فى شرف القلب لا تنتقص". والذى اغتالنى محض لص، سرق الأرض من بين عينى، والصمت يُطلق ضحكته الساخرة!
إنه فتى الحى العربى وشاعرُه "أمل دنقل"، أو "زرقاء اليمامة" ثاقبُ الرؤيةِ الشعريةِ والإنسانيةِ. قرأ لنا المستقبل فكذَّبناهُ وقلنا: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ.
وعلى الرغم من ذلك فإننى أرى أنه كان يفوق الزرقاءَ قدرةً على الرؤية. وذلك لأنه إن كانتِ الزرقاءُ ترى الجيشَ من مسيرةِ ثلاثينَ ميلاً كما وردَ فى الأغانى. فإن دنقلَ استطاعَ أن يرى الجيشَ الإسرائيلى يدكُّ غزةَ وأطفالَها من مسيرةِ ثلاثينَ عامًا. يقول: أسألُ يا زرقاءْ، عن وقفتى العزلاءِ بين السيفِ والجدارْ، عن صرخةِ المرأةِ بين السبى والفرارْ. كيف حملتُ العارْ.. ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسى، دون أن أنهار؟ ودون أن يسقط لحمى .. من غبار التربة المدنَّسة!
إن المتصالحَ -فى هذه الحالةِ- سوفَ يصيرُ المليكَ على أوجهِ البهجةِ المستعارةِ لا البهجةَ الحقيقيةَ التى تسكنُ القلب. وسوف يُوقِّعُ باسمه وباسم شعبه على معاهدةِ سلامٍ تكون إيذانًا بألا يكون سلامٌ فى المنطقة بأكملها. ويوضع الوطن العربى بعدها تحت وطأة مذابح "بيروت، وصابرا، وشاتيلا، وقانا، ودير ياسين، وحرب الخليج، وانتفاضةٍ أولى وثانيةٍ، وجنين، وغزة، والبقية ستأتى.."
ومهما كان ما يسترُ الأعداءَ سواء أكان شجرًا أم معاهدات سلام. فإن الناظرَ الثاقبَ الذى هو زرقاء اليمامة، والشاعرَ الشاعرَ الذى هو دنقل، يرى أنه لا بد وأن يدخلَ المجتمعُ العربى معمدانيةَ النارِ لا الماء، حتى تعودَ السماواتُ زرقاء والصحراء بتولاً. إنه ثمنُ الحقيقةِ التى هى آتيةٌ لا محالةَ: وغدًا سوف يولد من يلبس الدرع كاملة، يوقد النار شاملة، يطلب الثأر، يستولد الحقَّ من أضلع المستحيل!
إن دنقلَ ينتظرُ مَنْ يطلبُ المستحيل، وإننى أستشعرُ أنه لا ينتظرُ المحاربَ، وإنما ينتظرُ الشاعرَ. فالشاعرُ هو الكائنُ الوحيدُ الذى يستطيعُ -ولو مجازًا- أن يستولدَ الحقَّ من أضلعِ المستحيل. وذلك لأن الشعرَ حقٌ. ولا يجىء الحقُ إلا بالحقِّ.
وعلى عكسِ ما يؤمنُ الكثيرونَ آمن دنقلُ بضرورةِ اللجوءِ إلى الحقيقةِ شعريًّا مهما كان الثمن، ومهما كانتِ الإغراءاتُ البلاغيةُ. فهو الذى رأى وحدَّثنا. رأى حالنا فحدَّثنا عنا بعد أن صفَّى معدِنَه البشرى - من كل ما يحول بينه وبين الرؤيةِ الإنسانيةِ- بكل أدوات التصفيةِ المشروعة: إننى أول الفقراء الذين يموتون محتسبين لدى العزاء. قلت: فلتكن الأرض لى ولهم. وأنا بينهم حين أخلع عنى ثياب السماء. فأنا أتقدَّس فى صرخة الجوع، فوق الفراش الخَشِنْ.
أتى من "القلعة" المحصَّنة ببسطائها بحثًا عن الشعر فى "القاهرة" المحصَّنة بفجَّارها، ومن خلال السفر بين نقيضين اقتنص الشعر كهرباء تتولَّدُ من سالبٍ وموجبٍ. فكان شعرُه طعنةً تقضُّ مضاجعَ المُتخمين وتمسحُ دمعةَ الجائعينَ فى آنٍ، وبلاغته رعدةً وحشيةً تسرى فى عروقِ القصيدةِ وتسير بها إلى حافةِ الجنونِ المفضى إلى الحكمةِ فى الآنِ نفسه. إنها مقاربةُ المتناقضاتِ الإنسانيةِ أملاً فى العثورِ على النقاءِ الإنسانى.
من زاويةٍ أخرى نستطيعُ أن نُقسِّمَ مسيرةَ أمل دنقل الشعريةَ إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل الغرفة "8"، ومرحلة ما بعد الغرفة "8".
فى المرحلة الأولى كان دنقل حريصًا على معايشة كل التجارب الإنسانية والقومية التى أحاطت به. فحصها ودقَّق النظر فيها فاستخرج الشعرى ملتحمًا بالضمير الجمعى. فامتلأت قصائد هذه المرحلة بالنَّفَسِ الرومانسى التقليدى الذى يعكس الذات حال اصطدامها بالموضوع. كما امتلأت هذه القصائد بالتراثى والخطابى والاستشرافى. ولا أدل على ذلك من عناوين الدواوين فى هذه المرحلة. (مقتل القمر، البكاء بين يدى زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، العهد الآتى، أقوال جديدة عن حرب البسوس).

أما المرحلة الثانية، وهى تلك المرحلة التى دخل فيها دنقل معمدانية المرض فشفَّت قصائده وكشفت لنا عن ذاته فى أوج معاناتها الإنسانية. تلك المعاناة التى صدرت عن دنقل الشاعر لتعبِّر عن الروح الإنسانى بعيدًا عن كل ما هو قومى أو طائفى. إنها (أوراق الغرفة "8") التى كُتِبَتْ فى الفترة من 1979 حتى 1983. ولقد اعتمدت قصائد هذه الفترة على سيرة الشاعر الشخصية وعلى صورٍ من حياته تعكس مدى معاناته الإنسانية بعد أن خلَّصها المرض من شوائب سياسية تُقيِّد الشعر أكثر مما تُطلقه. ولقد كانت الورقة الأولى من هذه الأوراق بعنوان الجنوبي: هل أنا كنتُ طفلاً؟! أم أنَّ الذى كان طفلاً سواى؟! هذه الصُوَر العائلية.. كان أبى جالسًا وأنا واقف تتدلى يداى. رفسة من فرسْ. تركت فى جبينى شجًّا وعلَّمتِ القلب أن يحترس..

إنها فترة التساؤلات والبحث فى الذاكرة عن حيرةٍ شعريةٍ لا عن يقينٍ قومى. إنها فترة الوقوف على صراط اللغة والمرور بها فى اللا اتجاه على إيقاعٍ هادئٍ لا يُفضى إلا إلى الموت كيقين وحيد لقلبٍ كان أصعب ما عليه أن يعيش بلا يقين. فمات دنقل بعد أن أصبح الشعر العربى بعده مختلفًا عن الشعر العربى قبله!





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة