قد يسأل سائل: لماذا لم تحقق مصر تقدماً ملموساً فى مجال التنمية الصناعية بما يجعلها فى مصاف الدول الصناعية الكبرى؟ فاليابان على سبيل المثال قد تزامنت نهضتها الحديثة مع الإصلاحات التى قام بها محمد على باشا لبناء مصر الحديثة، بل إن الخطى التى سارت بها مصر فى مجال التحديث سبقت اليابانيين وكانت بمثابة نموذج يحتذى به فى التنمية الشاملة، وقد خرجت البعثات العلمية من اليابان إلى أوروبا على هدى ما قامت به مصر فى مطلع القرن التاسع عشر.
ربما كان وقوع مصر فى قبضة الاستعمار الغربى سبباً فى تعثر عجلة التقدم المصرية فى شتى مجالات الحياة، كما كان استنزاف ثروات مصر من قبل المستعمرين حائلاً دون انتفاع المصريين بمواردهم واستغلالها بما يحقق النمو والتقدم.
ولكل بلد ظروفه القاسية التى قد تحول دون اتفاق مخططاته للتنمية مع ما تقتديه طبيعة هذه الظروف، فاليابان أيضاً تعرضت لدمار عظيم يوم قذفت بقنبلتين نوويتين عام 1945 وسقطتا فوق "هيروشيما" و"ناجازاكى"، مما استدعى إعادة بناء وإعمار اليابان من جديد.
وبعيداً عن تلك المقارنة بين مصر واليابان، وبعيداً عن تلك الهوة التى تعمقت عبر الأيام بين قدرات واقتصادات البلدين، وما قد يتم تعويله على متغيرات عدة منها ما هو سياسى وما هو اقتصادى وما قد يتعلق بالتكوين النفسى للشعبين المصرى واليابانى.، فقد قاوم المصريون التغيير بكل صوره ونعتوا كل داع إلى التغيير بأدنى صنوف الرذائل، فعلى ذكر محمد على باشا لم يقنع الحرفيون المصريون بالإجراءات التى اتخذها لتحديث وتطوير الصناعة المصرية واعتبروها ضرباً من الظلم! ومن تلك الإجراءات تجميع أصحاب الحرف فى مكان واحد بات يعرف فيما بعد بالمصنع، بيد أن هذا المسمى جاء عبر تاريخ غير قصير من تمرد الحرفيين على هذا المكان الذى انتزعهم من حوانيتهم التى اعتادوا عليها وألفوها ليضعهم فيما يشبه السجن.
فالإسكافيون على سبيل المثال (وهم صانعو الأحذية والنعال) قد تم تجميعهم بالقوة ليعملوا على خط إنتاج متكامل يقوم فى الأساس على مبدأ التخصص وتقسيم العمل، بما يدعو إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة منتجاتهم، نختلف أو نتفق مع الوسيلة التى اتبعها والى مصر لتحقيق النهضة الحديثة، ولكن الهدف لا اختلاف على حصافته.
هذا التوجه الذى انتهجه حكام مصر منذ ذلك التاريخ وحتى الآن لم ينجح فى تغيير هيكل الصناعة المصرية والتى لم تزل تسيطر عليها الورش والحوانيت الصغيرة، والبالغ عددها ما يقرب من 230 ألف ورشة فى مقابل حوالى تسعة آلاف مصنع وفق تقديرات وزارة الصناعة لعام 1998، ومعيار التفرقة هنا هو عدد العاملين، حيث إن المنشأة الصناعية التى يمكن إدراجها فى عداد المصانع هى تلك التى تضم عشرة عاملين فأكثر. ولمّا كانت القيمة المضافة الناتجة عن الورش فى مصر تكاد تعادل تلك الناتجة عن المنشآت الصناعية الأكبر كان من الضرورى أن تعنى كافة الجهات المسئولة بتنمية هذه الورش ودعم قدراتها التنافسية فى الأسواق الداخلية والخارجية، حتى تحقق أعلى إنتاجية ممكنـة.
ولكن..كيف يتم ذلك؟ هناك من يدعو إلى توجيه كافة مخصصات برنامج تحديث الصناعة نحو الصناعات الصغيرة (الورش) فى المقام الأول، ناسين أن ذلك من شأنه تفتيت هيكل الصناعة بنفس الكيفية التى تم تفتيت ملكية الأرض الزراعية بها. وينتج عنه فى النهاية تأصيل وجود العديد من الكيانات القزمة التى لا يمكنها الصمود أمام منافسة المصانع العملاقة فى الداخل أو فى الخارج، حيث من غير المتصور أن يتم تقسيم هذه المخصصات على هذا العدد الهائل من الورش فيكون نصيب الواحد منها متواضعاً للغاية ومن غير المتصور أيضاً أن يسهم هذا النصيــب المتواضع فى تحويـل هذه الورش إلى مصانع حقيقية.
أيضاً لا يمكن إهمـال هذا القطــاع الكبيـر مـن المنشـآت مـع كـل مـا تسهم به مـن قيمـة مضـافة للاقتصـاد، فواقع محافظة دمياط يؤكد هذه الحقيقة، حيث تشكل ورش صناعة الأخشاب ركيزة هامة لاقتصاديات المحافظة، ويتم حالياً تحفيز أصحاب الورش للاندماج فى كيانات كبيرة كى يحظوا بدعم الدولة والاتحاد الأوروبى متمثلاً فى مركز تحديث الصناعة، وقد حظيت دمياط بفرصة الريادة فى هذه التجربة لما تتمتع به من طبيعة خاصة، حيث عادة ما يمتلك أصحاب الأعمال فى صناعة الأثاث أكثر من ورشة صغيرة وبالتالى يسهل دمج هذه الوحدات الصغيرة فى مصانع أو اعتبارها مصنعاً مقسماً على عدة وحدات صغيرة يمتلكها نفس الشخص.
هذه الدعوة التى تتبناها وزارة الصناعة لتطوير هيكل صناعة الأخشاب فى دمياط، وتلك المتعلقة بإعادة توطين صناعة الجلود بعيداً عن مناطقها التاريخية فى قلب العاصمة، إن هى إلا محاولات لإحياء تجربة عايشها المصريون منذ قرنين من الزمان، فهل حان الوقت لتطوير وتحديث الصناعة بما يليق وتاريخ نهضتنا الحديثة؟ وما هو مدى مقاومة التغيير فى القرن الحادى والعشرين؟.. أسئلة تحتاج إلى إجابة ومشروع قومى يحتاج إلى مزيد من العمل، وتعبئة الجهود.
ومصر إذ تضطلع بدورها الرائد فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، فى حاجة ماسة إلى ما يدعّم هذا الدور فى المستقبل دونما الركون إلى حضارة قديمة وتاريخ عريق، فبالعمل وحده تحافظ الأمم على كينونتها وترقى بحاضرها ومستقبلها إلى أفق لم تكن لتبلغه بالتمنّى. والعمل الذى كنا نستكثره بالأمس القريب أصبح بالكاد يؤمن حد الكفاف فى أيامنا هذه. فالثورة الصناعية طورت للناس آلاتهم ومعداتهم ليشبعوا حاجاتهم فى وقت قياسى وبمجهود أقل، غير أن تلك الحاجات تتعاظم وتتكاثر بمعدلات مخيفة التهمت كل ما صنعوا وبات اتصال الليل بالنهار لا يكفى عمل عامل منهم لإشباع هذه الحاجات.
ومما تقدّم لا ينبغى أن نبدأ من حيث بدأنا منذ زمن بعيد، وإنما يجدر بنا أن ننطلق من حيث انتهى الآخرون من ذوى والخبرة المعرفة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة