يسرى فودة

أنفلونزا الخنازير بين الحقائق والأساطير..

وداوِنى بالتى كانت هى الداءُ

الجمعة، 15 مايو 2009 12:11 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بين هؤلاء الذين يعلنون بداية نهاية البشرية، وأولئك الذين يستخفون بهم، وبين هؤلاء الذين يلعنون الحكومة المصرية على مذبحة الخنازير، وأولئك الذين يشكرونها، يضيع كثير من الحقائق، ويضيع التناول العاقل الذى يحفظ المجتمع من حالات الفزع والاضطراب.

يعود هذا فى أساسه إما إلى نقص الحقائق والمعلومات، أو إلى الفشل فى إيصال ما هو متاح من حقائق ومعلومات، أو إلى مزيج من كليهما معاً. هذا المقال يحاول الإسهام فى سد هذه الثغرة.

حتى كتابة هذه السطور أعلنت منظمة الصحة العالمية أن 29 دولة، أعلنت رسمياً إصابة ما مجموعه 4379 شخصاً بأنفلونزا الخنازير المعروفة علمياً باسم H1N1. وما نلاحظه لأول وهلة فى تقرير المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة، هو خلو قائمة الدول المصابة من اسم مصر، ربما لأنه لا توجد فعلاً حالات مصابة فى مصر، وربما لأننا نعلم بها لكننا لم نعلن عنها رسمياً أمام العالم، وربما لأنها موجودة ولا يعلم بها أحد. هذه الاحتمالات الثلاثة لا رابع لها، اللهم إلا احتمال أنه تم الإعلان «سراً» عن حدوث إصابات فى مصر.

الملاحظة الثانية، أن معظم الإصابات والوفيات لم يعد متركزاً فقط فى المكسيك، منبع المرض، التى بلغ فيها عدد المصابين حتى وقت كتابة هذه السطور 1626 حالة، تم إثباتها معملياً (ومن شبه المؤكد أن ثمة حالات أخرى لم تُثبت معملياً بعد)، وأن هذه الحالات مات منها حتى الآن 45 شخصاً (وهو رقم مرشح للصعود فى كل لحظة)، أى بنسبة أكبر من 2.7 فى المائة. ولأن المكسيك دولة فقيرة، تنتمى إلى دول العالم الثالث، فإن من «حسن الحظ« أن الدولة التى تحتل الصدارة الآن من حيث عدد الإصابات هى الولايات المتحدة الأمريكية، أقوى دولة فى العالم، بعدد إصابات بلغ حتى وقت كتابة هذه السطور 2254 حالة؛ إذ إن اللافت للنظر أنه لم يمت من هذه الحالات حتى الآن سوى حالتين اثنتين، أى بنسبة أقل من 0.09 فى المائة فقط. وهناك دولتان أخريان متقدمتان ،بلغ عدد الإصابات فى إحداهما 280 حالة (كندا) لم يمت منهم سوى شخص واحد، وفى الأخرى 93 حالة (إسبانيا) لم يمت منهم أحد، أى أن نسبة الوفيات صفر فى المائة.

بعبارة أخرى، إذا طبقنا نظرية النسبة والتناسب، كان لا بد أن يموت حتى هذه اللحظة فى أمريكا أكثر من 62 شخصاً، وفى كندا أكثر من سبعة أشخاص. هذا التفاوت الضخم فى نسبة الوفيات بين العالم المتقدم من ناحية والعالم المتخلف من ناحية أخرى، سيصيب البعض لدينا بالإحباط وربما أيضاً بالقلق من احتمال انتشار المرض فى بلادنا، لا قدّر الله، باعتبار تشابه ظروفنا مع المكسيك أكثر من تشابهها مع أمريكا أو كندا، لكنه فى الوقت نفسه يفتح أمام البشرية باباً واسعاً للتفاؤل. يعود هذا إلى عدة أسباب، لكنه يعود أولاً ببساطة إلى الفارق فى مستويات مجموعة من المفاهيم الحاسمة، على رأسها: العلم والوعى والصراحة، وهى أسباب فى مجملها يمكن الأخذ بها، وليست حكراً على أمريكا أو كندا.

أمامنا فى هذا الإطار مجموعة من الحقائق لا بد أن نكون على وعى بها. أولاً، إن هذا نوع من الإنفلونزا فى غاية العدوى، يصيب الجهاز التنفسى للخنازير، ويحدث هذا عادةً فى نهاية الخريف وبداية الشتاء حين تتراوح نسبة الإصابة فى القطيع من 1 % إلى 4 %. ثانياً، يزيد شغف العلماء بنوع الجرثوم المسبب لهذا النوع من الإنفلونزا، نظراً لما لدى الخنازير من قدرة على الاحتفاظ فى أجسادها بجراثيم متنوعة، تزيد من صعوبة الفصل بينها، كما تزيد من سهولة تداول الجينات بين هذه الجراثيم، وهو ما يمنحها شراسة وقدرة عالية على الانتشار.

ومن المعروف أن جراثيم الأنفلونزا تتكون عادةً من ثمانية جينات، تحتوى النسخة الحالية منها على ستة جينات من ذلك النوع المنتشر فى أمريكا الشمالية، واثنين لهما تاريخ مع الخنازير الأوروبية والآسيوية.

ثالثاً، ينتقل الجرثوم من الحيوان إلى الإنسان بنفس الطريقة التى ينتقل بها جرثوم الأنفلونزا من الإنسان إلى الإنسان: فقاعة مائية دقيقة تحمل الجرثوم من خلال رذاذ الأنف أو الفم أثناء السعال (الكُحة) أو العطس، إما مباشرة إلى الجهاز التنفسى (عبر الأنف أو الفم) لمن تصادف وجوده حول المريض، أو إلى يد المصاب (أو حول وجهه) التى يمكن أن تنقلها بعد ذلك إلى آخرين عبر التصافح بالأيدى (أو التقبيل)، أو بشكل غير مباشر عندما يستقر الرذاذ على أى سطح (مثل القميص أو المقعد أو الطاولة أو مقبض الباب) يتصادف أن أحداً سيلمسه بعد ذلك ثم يمسح أنفه بيده.

رابعاً، رغم أن فيروساً متصلاً بالخنازير استطاع فى عام 1918 القضاء على حوالى 50 مليون إنسان فى مختلف أنحاء العالم (و هو أضعاف من قتلوا أثناء الحربين العالميتين)، فإن البشرية بدأت منذ عام 1930 فى فهم ما حدث (و إن لم تكتمل معرفتنا بعد)، وكان هذا من بين الأسباب التى جعلت من هجومه عام 1976 أقل خطورة عندما أصاب حوالى 200 شخص فى نيوجيرسى لم يمت منهم إلا شخص واحد. وبين عامى 2005 و2009 (قبل الهجمة الحالية)، لم تسجل فى أمريكا سوى 12 حالة لم يمت منها أحد.

خامساً: استطاع العلماء فى مركز السيطرة على الأمراض فى جورجيا فصل الفيروس بعد أخذ عينة من أحد المصابين، وهم يعكفون فى هذه اللحظات على تطوير مصل مضاد لهذا الفيروس وإن كان إنتاجه على نطاق واسع، سيستغرق من أربعة إلى ستة أشهر.

ومثلما هى الحال مع مواجهة سم الثعبان بالترياق الذى يحتوى على قدر من السم نفسه، سيحتوى المصل المضاد على عينة من جرثومة أنفلونزا الخنازير، تلعب دور المنبّه والمنشّط لجهاز المناعة فى الإنسان. وهى طريقة عرفتها البشرية منذ زمن طويل، حتى أن الشاعر العباسى أبونواس أشار إليها فى سياق حديثه عن الخمر: «دع عنك لومى فإن اللوم إغراءُ/ وداوِنى بالتى كانت هى الداءُ».

وكان القدماء يعالجون المجانين ومرضى الصرع بوجبات المخ، ومرضى قرحة المعدة بقوانص الدجاج، ومرضى الروماتيزم بكلية الغزال، إلخ، حتى أنه عندما أصابت ليلى العامرية قيس بن الملوح فى قلبه شغفاً وحباً، ذبح له أحدهم شاةً وقدم له قلبها فقال: «و شاةٌ بلا قلبٍ يداووننى بها / وكيف يداوى القلبَ من لا له قلبُ؟».

غير أن الذى يبعث على قليل من القلق، هو حقيقة أن فيروس عام 1918 كان قد زار البشرية بصورة ضعيفة فى مثل هذا الوقت من العام، ثم هدأ قبل أن يعود فى صورة متوحشة مع نهاية الخريف. ولأننا رغم التقدم العلمى الذى أصبناه، لا نعلم تماماً كل ما ينبغى علينا أن نعلمه عن هذا العدو الغامض الذى لا نستطيع رؤيته، ولا نفهم إلى حد بعيد كيف يعمل، فإنه ينبغى علينا أخذ جميع الاحتياطات التى يمكن أن يفكر فيها العقل البشرى. وعلى رأس هذه الاحتياطات: تجنب السفر إلا إذا كانت الدواعى قاهرة، والابتعاد عن أماكن التجمعات خاصةً غير الموثوق فى نظافتها، والابتعاد تماماً عن أى شخص يُلاحظ أنه يسعل أو يعطس، وتجنب المصافحة والاحتضان والتقبيل، وغسل الأيدى مراراً وتكراراً بالماء والصابون، ومسح أسطح المناضد والمقاعد ومقابض الأبواب والنوافذ والدواليب بمنديل معطر يحتوى على مادة مطهرة، والتخلص فوراً من المنديل بعد استخدامه والقيام بذلك مراراً وتكراراً، وأخيراً تجنب استخدام اليد العارية فى دعك أو لمس الأنف أو الفم أو العينين تجنباً تاماً.

ربما تكلفك هذه الاحتياطات بعض الوقت، وقليلا من الجهد، والنذر اليسير من الميزانية، لكنها في النهاية ربما تعني حياتك وحياة أحبائك وأنت لا تدرى.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة