لم أقرأ نص القرار الذى اتخذته القمة العربية الأخيرة بالوقوف إلى جانب رئيس السودان السيد عمر البشير فى وجه العدالة ممثلة فى المحكمة الجنائية الدولية التى أصدرت مذكرة بمحاكمته عن الجرائم التى ارتكبت فى دارفور وراح ضحيتها مئات الألوف من أهل هذا الإقليم السودانى، وهم قبائل أفريقية غير عربية تمردت على السلطة المركزية مطالبة بمساواتها مع غيرها من الجماعات العرقية التى يتألف منها الشعب السودانى، فتصدى لهم النظام الحاكم بقواته العسكرية وبالعصابات المسلحة التى شكلها من الجنجاويد ذوى الأصول البدوية العربية وسلطها على أهل دارفور فى حرب وحشية لم يستهدف فيها المتمردين المسلحين وحدهم، بل شنها على العرق كله وعلى الإقليم بكل ما فيه وكل من فيه.
ومع أن المذبحة ظلت قائمة على قدم وساق طوال السنوات السبع الماضية فقد سكتنا عنها جميعاً وتصاممنا وتعامينا فلم ننشر شيئاً عن هذا الهول الذى قاساه أهل دارفور ولايزالون، ولم نرفع أصواتنا بالتضامن مع الضحايا، ولم نستنكر هذه الجرائم ولم نحتج على مرتكبيها الذين شجعهم سكوتنا فواصلوا جرائمهم وهم آمنون مطمئنون!.
نحن تواطأنا مع المجرمين وقد آن لنا أن نعترف، فى الوقت الذى كان فيه العالم الخارجى يتابع ما يحدث ويستنكر ويحتج، وكان مجلس الأمن يشكل اللجان، ويرسل المراقبين، ويتقصى الحقائق، ويطلب شهادة الشهود، حتى اجتمعت له المعلومات وتوفرت الأدلة التى بنت عليها المحكمة الجنائية الدولية قرارها بمحاكمة السيد عمر البشير أمامها بوصفه المسئول الأول عما وقع.
ومن حق السيد عمر البشير أن يدافع عن نفسه، ومن حق المدافعين عنه أن ينفوا التهمة ويفندوا الأدلة، لكن ليس فى وسع أحد أن يتجاهل قرار المحكمة الجنائية الدولية أو يتحداه، لأن هذه المحكمة مؤسسة دولية لم تنشئها حكومة أو دولة بالذات، وإنما أنشأها المجتمع الدولى كله لإقرار حقوق الإنسان وتحويلها من مبادئ نظرية إلى قوانين يجب على الدول أن تحترمها وألا تخرج عليها وإلا تعرض المسئولون فيها للمحاكمة والعقاب.
ولا شك فى أن النظام السياسى فى أى دولة هو المسئول الأول عن احترام حقوق الإنسان وتطبيقها ومحاكمة الخارجين عليها ومعاقبتهم، لكن ماذا يكون موقفنا حين يكون المسئولون عن هذا النظام هم الذين ينتهكون الحقوق ويخرجون عليها؟ هل نسمح لدولة أخرى بأن تقوم وحدها بمواجهة هؤلاء المسئولين والضرب على أيديهم وتخليص مواطنيهم المغلوبين على أمرهم من شرهم على نحو ما صنعت الولايات المتحدة وحلفاؤها مع صدام حسين؟ أم يكون من الأفضل أن ينهض المجتمع الدولى كله بالدفاع عن البشر وإقرار حقوق الإنسان؟.
ولأن المجتمع الدولى يتشكل من دول لكل منها أهدافها ومصالحها التى لا تتقيد دائماً بالقيم الأخلاقية فقد روعى فى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية أن تكون ساحة للعدالة بعيدة عن السياسة مستقلة عن الدول الكبرى وعن القوى والمنظمات السياسية المختلفة من كل النواحى، تماماً كما يكون القضاء فى أى بلد مستقلاً عن السلطة التنفيذية فى هذا البلد، ومن المعروف أن الولايات المتحدة ليست ممثلة فى هذه المحكمة، على حين تتمتع عدة دول عربية بعضويتها ومنها الأردن، وجيبوتى، وجزر القمر.
من الواضح أن العدالة فى هذه المحكمة مضمونة بالقدر الكافى، فما الذى يمنع متهماً من المثول أمامها إذا كان بريئاً؟ وإذا كان هذا المتهم رئيس دولة فالضمانات المكفولة له مضاعفة، لأنه قادر على امتلاك المعلومات والأدلة التى تثبت براءته أمام قضاة لا يسعون لإدانة البرىء وإنما يسعون هم ويسعى معهم العالم كله ونحن منه لمعرفة الجناة الذين قتلوا الشيوخ والأطفال، واغتصبوا النساء وهتكوا الأعراض فى عملية تطهير عرقى خرج فيها المسئولون عن الأمن وحماية الأرواح والممتلكات وإقرار الحقوق واحترام القانون على كل هذه المطالب والاحتياجات الحيوية التى لا تكون السلطة شرعية إلا إذا ضمنتها، فإذا عجزت عن ضمانها فقدت شرعيتها، فكيف إذا كانت هذه السلطة هى الخارجة على الأمن، والخارجة على الحق، والخارجة على القانون، سواء كانت خارجة بنفسها أو بغيرها ممن يأتمرون بأمرها ويعملون فى خدمتها؟.
تلك هى الأسئلة التى لا أعرف كيف واجهتها القمة العربية حين اتخذت قرارها بالوقوف إلى جانب رئيس السودان الذى امتنع عن المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ على أى أساس قانونى أو أخلاقى بنت هذا القرار، وكيف وفقت بين تحيزاتها القومية والتزاماتها الإنسانية والدولية؟.
ومن المؤكد أن العرب يستطيعون أن يجدوا فى العبارات المحفوظة عن الأسلاف ما يملأون به أشداقهم، لكنهم لن يكونوا مقنعين، وإذا كانوا يستطيعون أن يغازلوا فى داخل بلادهم بعض العواطف ويرضوا بعض الغرائز فلن يستطيعوا هذا فى الخارج، والخسارة إذن فادحة ومؤكدة، لأننا لا نعيش فى داخل بلادنا فحسب، بل نعيش فى خارجها أيضاً، والأخطار المحيطة بعرب الخارج ليست قليلة والأسباب التى تحرض عليهم الآخرين لا يستهان بها.
وحاجتنا ونحن فى داخل بلادنا للآخرين ليست أقل من حاجتنا لهم ونحن فى بلادهم، وإلا فما هو البلد العربى الذى يستطيع أن يغلق حدوده على نفسه ويعيش بمعزل عن غرب العالم أو شرقه؟ وإذا لم نكن نستطيع البقاء إلى الأبد فى هذه العصور المظلمة التى لانزال نتخبط فى دياجيرها إلى اليوم وإلا انقرضنا، ألا يكون من واجبنا أن نتفهم حقائق العصر ونتوافق معها ونمتثل لمبادئها وقوانينها؟.
لكن القمة العربية على ما يبدو لم تلتفت لهذه الأسئلة ولم تولها حقها من العناية، وإنما نظرت إلى القضية بعين واحدة، فلم تر منها إلا رئيسا عربياً مطلوباً للمحاكمة مهدداً بالعقوبة فكأن كل الرؤساء العرب مطلوبون معه ومهددون، وإذن فعليهم جميعاً أن يحولوا بينه وبين قضاته وأن يمكنوه من الهرب، وهو ما لا يستطيعونه إلا إذا التزم بالطيران فى سماوات متواطئة!.
ما الذى يعكسه هذا القرار الذى اتخذته القمة العربية فى قضية الرئيس السودانى؟.
لا شك فى أنه يعكس موقفاً سلبياً من العالم اليوم ومن حقائق العصر ومعطياته التى لم يعد ممكناً معها أن ينغلق بلد على نفسه أو أن يتعرض شعب أو عرق لما تعرض له الأرمن فى تركيا، أو العرب فى فلسطين، أو المسلمون فى البوسنة، وقد قرأنا ما نشر فى الصحف منذ أيام على لسان الرئيس الصربى بوريس تاديتش الذى أعلن خلال زيارته الأخيرة لمصر أن بلاده سلمت للمحكمة الجنائية الدولية أربعة وأربعين من الصرب المتهمين بارتكاب جرائم حرب ضد المسلمين فى البوسنة، وقد سلمت صربيا قبل هؤلاء رئيسها السابق سلوبودان مليوزوفيتش المتهم بارتكاب هذه الجرائم للمحكمة الدولية التى عقدت فى لاهاى بهولندا ونظرت قضيته فى عدة جلسات لم تنته إلى حكم، لأن المتهم مات فجأة بالسكتة القلبية.
لماذا يمتثل الصرب للقانون الدولى ويخرج الرؤساء العرب عليه؟ وهل يعكس خروجهم عليه شعوراً خفياً بأن التهم الموجهة للرئيس السودانى يمكن أن توجه بمعنى من المعانى لأكثر من رئيس عربى؟.
لكن خروجنا على القانون يشجع غيرنا على الخروج عليه، وأنا أتحدث هنا عن الزعماء الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم الحرب فى غزة. إنهم يرتكبون جرائمهم ضدنا، ويجدون فينا من يتستر عليهم وييسر لهم الفرار من وجه العدالة، لأن الذى يرفض المثول هو نفسه أمامها لا يستطيع أن يطالب غيره بما لم يلتزم به، وهكذا نقدم أنفسنا للعالم، العروبة كما نقدمها رابطة عنصرية تبرر لأصحابها أن ينغلقوا على أنفسهم، وينكروا حقائق العصر، ويفروا من وجه العدالة ويعتدوا على حقوق الإنسان.
والإسلام كما نقدمه عقيدة دموية تحض على العنف، وتبرر القتل وتضطهد أصحاب الرأى، وتحتقر المرأة، وتعلن الحرب على أى إنسان مخالف. كيف يكون موقف العالم منا؟ كيف نقنعه بأن يحسن استقبالنا، ويستمع إلينا، وينصر قضايانا العادلة؟ كيف نستطيع العيش مع الآخرين؟!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة