نحنُ شعبٌ من عجين
كلّما تزدادُ إسرائيلُ إرهاباً وقتلاً
نحنُ نزدادُ ارتخاءً.. وبروداً.. نزار قبانى
قال الشاعر الفلسطينى المعروف سميح القاسم، إن إسرائيل 'حالة تاريخية طارئة على المنطقة" وإنه "غير مغادر لبيته الصغير على سفوح جبل حيدر فى الجليل تمسكاً بنبوءة ووعد أجداده بأن الحياة والموت يتوقفان فى هذا المكان"
من هنا أبدأ حديثى عن القدس عاصمة للثقافة العربية 2009 والذى جاءت فكرته بناءً على طلب تقدم به وزير الثقافة فى الحكومة الفلسطينية التى شكلتها حركة حماس فى غزة أمام مؤتمر وزراء الثقافة العرب 2006، وقد وافق وزراء الثقافة على الاقتراح. وكان الهدف من إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية، تشكيل فرصة لبدء تحركٍ يساند صمود المدينة فى معركة الوعى والثقافة، حسبما جاء فى بيان مؤتمر وزراء الثقافة العرب. وستتم الاحتفالات فى خمس مدن تشمل القدس والناصرة ورام الله وبيت لحم وبيروت، متضمناً مشاريع ثقافية وفنية، رصدت لها ملايين عديدة من الدولارات (كما نقلت وكالة معا بتاريخ 12/3/2009(، منها خمسة ملايين دولار من السلطة الفلسطينية!
و بدأت تظهر دعوة قوية (لتشكيل وفد من المثقفين العرب، وبعض الأصدقاء من المثقفين فى العالم، كى نذهب إلى القدس من أجل أن نعلن المدينة عاصمة للعرب، مبرهنين أن واقع كون القدس محتلة، يعنى أن عواصم العرب كلها محتلة). هذه الدعوة وجدت استجابة لها فى بعض العواصم العربية ومن بعض المثقفين العرب.
إن التذرّع بأن الاحتفال بالقدس وذهاب المثقفين إليها هو دعم لها ينمّ عن فهم خطئ وتضليل مفضوح لقضية فلسطين، لأن مثل هذا الذهاب الذى لا يتم إلا من خلال طَرْق أبواب السفارات اليهودية فى العواصم العربية للحصول على تأشيرة الدخول هو تكريسٌ فعلى لاحتلال القدس واغتصاب فلسطين، وهو اعتراف ثقافى بذلك الاغتصاب. ثم إن قضية فلسطين ليست قضية جدار ولا مشكلة حصار، حتى نقول إن زيارة القدس تسهم فى التصدى للجدار وفك الحصار.
وإن دفاع أصحاب الدعوة بمنطق القياس الخاطئ ومقارنة ضرورة الحصول على إذن الاحتلال لزيارة السجين مع ضرورة إذنه لزيارة القدس "الأسيرة"، هو تسطيح للقضية. وإن هذا الاختزال لقضية فلسطين يزيد فى دفعها نحو مزيد من السقوط، ولن يسهم أبداً فى نقل القضية إلى مستوى الحل.
إن المتابع السياسى يدرك أن مسألة نزع الاعتراف الشعبى بكيان الاحتلال على مستوى رجال الفكر والثقافة والأدب، تبدو قضية محورية لدولة يهود تخدم السياسة الأمنية، فهى تمحو من خلالها ذاكرة الأمة العدائية ضد هذا الكيان، مما يقلل من حجم التهديدات الأمنية نتيجة لنزع فكرة أن حل قضية فلسطين لن يكون إلا بالتحرير والجهاد وهذه الفكرة موجودة داخل العقل الجماعى للمثقف العربى, وذلك فى محاولة لاستكمال متطلبات الأمن التى هى محددات الحراك السياسى للكيان الغاصب.
فحذارِ من أن ينخدع المثقفون والشعراء والكتّاب العرب بهذه الدعوة! وحذارِ من أن ينخدعوا فتزل أقدامهم وتدخل إلى السفارات اليهودية فى بعض العواصم العربية! لكى توقع على طلبات تأشيرات الدخول من سفارات العدو الغاصب. فأنا لا أظن أن أهل القدس لن يكونوا سعداء لمن يأتيها من أبواب السفارات "الإسرائيلية" مهما كانت ألقابهم، ومهما كان إنتاجهم الفكرى والثقافى ومهما علت أصواتهم بالشعر البديع، وكل من يريد الذهاب إلى القدس متحدياً مشاعر أمته الإسلامية والعربية، أن يتذكّر قصة دخول وزير الخارجية المصرى السابق إلى المسجد الأقصى تحت حراسة جنود الاحتلال ومع ما حدث معه من أهل القدس .وليربئ كل مثقف مخلص بنفسه عن أحذية المقدسيين.
القدس ليست مدينة للفلسطينيين ولا للعرب، بل هى حاضنة لتاريخ الأمة وشاهدة على الهوان والضعف الذى أصابها, فكيف يمكن أن يزورها مثقفون وكتّاب من أبناء الأمة، وكأنهم عابرو سبيل أو سيّاح لا شأن لهم بما يجرى فوق ترابها من اغتصاب أو بجوار أقصاها من تهويد؟
والثقافة العربية وهى أصالة ووعى وحضارة، تمتد جذورها فى تاريخ الأمة الإسلامية مشرقة مستندة إلى وحى إلهى وإلى إبداع مفكرى الأمة بجميع فئاتها, وليست حفلات رقص على جراح القدس، ولا هى قصيدة غزل بمغتصبَة تأنّ تحت سلطة المغتصبِين. ولذلك فنشاطات التطبيع الثقافى مع الكيان اليهودى هى ظلم للثقافة وامتهان لأصالتها، مهما كانت الذرائع.
القدس تنتظر الفاتحين، وهى ما زالت ترسم على أسوارها ذلك المشهد التاريخى لدخول عمر فاتحاً، ولدخول صلاح الدين محرراً، وتلك الجدران الطاهرة لن تقبل برسم مشاهد ذليلة لأى مثقّف يدخلها مطبّعا.
ولا يمكن للمثقف العربى الواعى أن يغفل عن الصراع الثقافى ولا عن حرب الأفكار الدائرة بين حضارتين تتنازعان مستقبل العالم، وكل منها ترفع شعاراً لها، وذلك لاجتذاب الناس حولها. وخاصة أن الساحة مفتوحة لأصحاب شعارات طائفة من المروجين لقبول الكيان الغاصب على أرض فلسطين. وهى شعارات مصطنعة تؤدى إلى تشويه طبيعة علاقة الصراع بين الأمة والمحتلين, وهى شعارات تسهم فى محاولات محو ذاكرة الأمة المليئة بمعارك التحرير والبطولات، وفى خلق جيل من الشباب، جيل لا يعرف عن قضيته إلا الاستسلام
والتطبيع، ويجدّ هؤلاء المروجون إلى مد الجسور لعبور اليهود المحتلين إلى وجدان الأمة، وتمكّنهم من القفز فوق ذلك الوعى الثقافى الأصيل الراسخ فيها.
فهذان الشعاران يتصارعان فى داخل الميدان الفكرى والثقافى العربى، شعار(ثقافة التطبيع) وشعار (ثقافة التحرير). وعلى كل عربى أديباً كان أو مبدعاً أن يلتف حول شعار العزة وهو شعار التحرير. والزمن القريب كفيل باختبار مصداقية الشعارين! وهذه صرخة تحذيرية للمثقفين العرب من أن ينخدعوا بشعار المنهزمين التطبيعى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة