حينما ذهب الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس فى عام 1977 كنت فى المرحلة الثانوية، وتمنيت كما تمنى غيرى من المصريين أن تسقط طائرة الرئيس قبل أن تذهب، بينما سادت شائعات فى الشارع أن الطائرة محملة بالكوماندوز، وأنه بمجرد فتح الباب سيطلقون نيرانهم على كل الساسة الإسرائيليين فيقتلونهم .. ونرتاح منهم، لكن كل هذه الأمنيات ذهبت أدراج الرياح، ونزل السادات فى مطار بنجوريون وصافح موشيه ديان وجولدا مائير ومناحم بيجين وإرييل شارون .. أى كل رموز التطرف فى إسرائيل.
وظلت معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية حدثا نتظاهر ضده فى الجامعة، ونقيم المعارض، ونكتب مجلات الحائط، التى لا يسمح لنا يتعليقها فكنا نضعها على الأرض ونقف لحراستها حتى لا يمزقها الحرس الجامعى، ورغم مرور ثلاثين عاما على تلك المعاهدة لا تزال إسرائيل هى العدو الذى يرفض كل المصريين التطبيع معه، حتى ولو كانت هذه رغبة بعض النافذين فى دوائر صناعة القرار أو بعض المثقفين الذين يراهنون على تغيير إسرائيل من الداخل.
معارضتى للتطبيع مع إسرائيل، لم تمنعنى من مراجعة قناعاتى الشخصية عن اتفاقية السلام، التى كنت أراها استسلاما، ولم أتورع وغيري من الشباب باتهام الرئيس الراحل أنور السادات بالخيانة بسبب هذا السلام، لكن زياراتى المتكررة لسيناء التى ظلت محتلة من 1967 حتى بدأت فى العودة إلى حضن الوطن على مراحل منذ 1973، ثم الاطلاع على بنود معاهدة السلام وملاحقها التكميلية المتاحة على الإنترنت، أوصلتنى إلى قناعة جديدة أن استعادة الأرض لم تكن خطأ، يستحق صاحبه الرمى بالخيانة، بل يجب علينا إعادة الاعتبار إليه.
وزادت هذه القناعة حين توثقت علاقتى بالدكتور محجوب عمر الذى كان مديرا لمركز الدراسات الفلسطينية ومستشارا للرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى استمعت إلى أبو عمار عدة مرات، وهو يتحدث عن موطئ قدم فى فلسطين المحتلة، وحين حصل على هذا الموطئ وشرع فى إقامة سلطة وطنية حتى ولو محدودة الصلاحيات، تكررت نفس الاتهامات بالخيانة وبيع القضية، بينما على الأرض أصبح لدينا أول دولة فلسطينية فى التاريخ حتى ولو منقوصة السيادة.
أمس أعاد منظر الجماعة الإسلامية الدكتور ناجح إبراهيم الاعتبار للرئيس الراحل أنور السادات، وأجرى مراجعة جديدة ذهب فيها إلى أن الشريعة الإسلامية أباحت الصلح مع المسلمين وغير المسلمين، وأن ما يظنه بعض شباب الحركة الإسلامية من السبعينيات وحتى اليوم بعدم جواز الصلح مع اليهود أو غيرهم .. هو كلام سياسى ولا يمت للفقه الإسلامى بصلة.
وقال الشيخ ناجح، إنه تبين بعد سنوات طويلة من البحث والدراسة أن كامب ديفيد رغم سلبياتها الكثيرة كانت أفضل المتاح أمام مصر وقتها، وأن مجرد الاعتراض على صلح أو اتفاقية تفرضها موازين القوى ليس حلا إيجابيا، وإنما هو لون من ألوان السلبية السياسية وقال إن كل من عارضوا كامب ديفيد من الحكومات العربية، وعلى رأسها العراق وسوريا وغيرهما لم يأت بأى بديل سياسى أو عسكرى جيد بدلا منه .. ولم تحقق أية دولة منهم أى مكسب يذكر على أى صعيد فى هذه الفترة يوازى كامب ديفيد رغم سلبياتها.
وما فعله ناجح إبراهيم وما سبقه إليه غيره من السياسيين والمفكرين هو نوع من المراجعة السياسية التى تستحق الاهتمام والمناقشة، وهى نوع من الشجاعة التى تفتح أبواب النار على صاحبها، لكن فى عالم السياسة لا توجد مسلمات، إنما أمور متغيرة واجتهادات تقبل الصواب كما تقبل الخطأ، وقد نعيد قراءة الوقائع السياسية فى زمن مختلف فى ضوء ما حققته من حقائق على الأرض.
وبناء على ذلك فإن كامب ديفيد فى وقتها كانت تصرفا غريبا وغير مقبول، لكنها فى الوقت الراهن تحتاج قراءة مخالفة فى ضوء عودة الأرض المحتلة إلى حضن الوطن، وهوأمر تتراجع أمامه كافة الشعارات السياسية، والخلافات الحزبية الضيقة، وبعض القراءات غير الواقعية رغم احترامنا لها ولأصحابها.
لكن اتفاقية السلام وعودة الأرض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل لا تعنى أبدا التطبيع بين الشعوب، فالنظام السياسى حر فى خياراته، ويفى بالتزاماته السياسية، لكن الناس لن تنسى أبدا الدماء الزكية التى سالت لتحرير الأرض، ولن تنسى أبدا أرواح الفلسطينيين التى تزهق كل يوم لصالح المشروع الإسرائيلى.
نعم لاتفاقية السلام لأنها أعادت الأرض، وقد دفعنا ثمنها فى علاقات دبلوماسية رسمية، ولا وألف لا للتطبيع مع إسرائيل وهذا هو خيار الناس الذى يجب أن نحافظ عليه بأى ثمن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة