لم يثبت قط أن حرية التفكير والتعبير كانت لها أضرار أو سلبيات، حتى حين يعارض التفكير والتعبير ما اعتنقته الجماعة واتفقت على تقديسه واحترامه وعدم التعرض له بتعديل أو تغيير. على حين ثبت العكس. فمصادرة هذه الحرية والعدوان عليها بحجة حماية العقيدة واحترام التقاليد تسببت فى شرور كثيرة.
ونحن نعرف أن حرية التفكير والتعبير ليست فوضى، وإنما هى مشروطة بشرطين اثنين: الأول أن يلتزم فيها من يمارسها بحدود الفن الذى يفكر من خلاله ويعبر. إذا كان فيلسوفا فلابد أن يقنعنا. وإذا كان شاعرا فعليه أن يمتعنا ويشجينا. والشرط الآخر ألا تكون هذه الحرية احتكارا لرجل واحد أو لاتجاه بالذات. وإنما تكون للناس جميعا ولكل الاتجاهات.
ثم إن الحرية كما نعرف هى الأصل. ليس فقط فى السياسة أو فى الاجتماع، أو فى الأدب والفن، بل حتى فى العقائد الدينية التى لا تستطيع أن تزاحم غيرها أو تجد من يعتنقها إلا فى مناخ من الحرية يسمح بإعادة النظر فى العقائد القديمة الموروثة والانتقال منها إلى العقيدة الجديدة. ونحن نقرأ فى القرآن الكريم أنه: «لا إكراه فى الدين». ونقرأ: «من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر»، ونقرأ: «من اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها».
والحرية لا تتيح للعقيدة الجديدة أن يتعرف عليها من نشأوا على عقائد أخرى وأن يجدوا طريقهم إليها فقط، بل تتيح للعقيدة الجديدة أن تجد أنصارا يؤمنون بها ويدافعون عنها ويضمنون لها أن تبقى وأن تتجدد وتتطور.
لأنها تصبح اختيارا يدافع عنه صاحبه ويجد فيه نفسه. وبغير الحرية يكون الدين إرغاما وإكراها لا يعتنقه المعتنق إلا فى الظاهر ليرضى من يفرضه عليه. حتى إذا تحرر من سطوته خلعه عن نفسه غير نادم عليه.
والدين الذى يبدأ مع حامل الرسالة حرية يتحول بعده إلى سلطة مستبدة تدخل فيه ما لا يتفق معه، كما فعلت الكنيسة التى حولت المسيحية فى بعض العصور إلى سلطة قاهرة مستعدة لأن تصلب المسيح من جديد كما تخيل الروائى الروسى د. رستويفسكى فى بعض أعماله.
وكما فعل بعض الفقهاء المسلمين الذين حولوا العقيدة الحرة إلى التزام أمامهم هم وليس أمام الله، وجعلوا الموت عقوبة للمرتد أو لمن يعتبرونه مرتدا. وهى اختراع لا سند له فى القرآن ولا فى السنة إلا حديث أو اثنين يظن أنهما من اختراع بعض الرواة.
فإذا كانت الحرية هى الأصل فى الدين، فهى الأصل فى كل شىء، وخاصة فى الإبداع الأدبى والفنى، إذ لا يتصور إبداع حقيقى قادر على الإقناع والتأثير وهو كذب أو تلفيق.
إن الإلهام الحقيقى ليس أكثر من انفعال صادق يمكن الشاعر أو الفنان من الاندماج فى التجربة والسيطرة على الأدوات. والانفعال الصادق نوع من الإيمان أو الإخلاص يتناقض مع الكذب والادعاء والرضوخ للقهر والمصادرة والإرغام.
والذين يزعمون أنهم حين يصادرون الرأى ويعاقبون على حرية التفكير والتعبير يحمون المجتمع ويدافعون عن مقدساته لا يدافعون فى الحقيقة إلا عن أنفسهم، ولا يحمون إلا سلطتهم التى أقاموها على الانحياز لفكرة بعينها ونصبوا أنفسهم حماة لها يحتكرون فوائدها ويجمعون خراجها.
لكن الزمن قد يتجاوز هذه الفكرة ويتخطاها فيثبت للناس أن العمل الذى كان متهما فى الماضى ثبتت براءته، وأن المصادرة لم تقض عليه، بل هو الذى خرج عليها وأثبت فشلها وفرض وجوده بعدها، سواء لأنه رأى ثبتت صحته وأصبح حقيقة يعترف بها الجميع، أو لأنه فن أنقذه جماله وأعفاه من امتحان الصدق والكذب.
لقد كان جاليليو على حق حين قال إن الأرض ليست مركز الكون، وإنها تدور حول الشمس وحول نفسها على عكس ما كانت تقوله الكنيسة التى أرغمت جاليليو على أن يغير رأيه ويتظاهر بموافقتها. لكن الحقيقة العلمية فرضت نفسها فرضا على الكنيسة التى اعترفت متأخرة بخطئها وبأن جاليليو كان على حق. وكذلك فعلت الكنيسة مع داروين. أما الشيخ ابن باز فى السعودية فقد ظل يتبنى الموقف الذى تخلت عنه الكنيسة. وهو لم يسمع طبعا بداروين ولا بنظرية النشوء والارتقاء!
والفرنسيون الذين صادروا ديوان بودلير «أزهار الشر» فى أواسط القرن التاسع عشر اعترفوا بعد عقدين أو ثلاثة بعبقرية بودلير التى لا تتكرر، وطبعوا من ديوانه أكثر من عشر طبعات فى سنة واحدة.
وما يقال عن ديوان «أزهار الشر» لبودلير يقال عن رواية «يوليسيس» لجيمس جويس، وعن «عشيق الليدى تشاترلى» لـ د.هـ. لورنس.
والذى حدث فى روما، وباريس، ولندن، والولايات المتحدة، حدث عندنا، ومازال يحدث حتى الآن.
نحن نقرأ ما عبر عنه المعرى فى شعره من شكوك فلا تخالجنا شكوكه دائما، لكننا نحترم دائما صدقه، ونتمثل معاناته، ونفتن بفنه الرفيع.
وما نقوله عن شكوك المعرى نقوله عن سجون أبى نواس نحن لا نقرأ الشعراء لنصدقهم أو لنقلدهم، وإنما نقرأ لهم لننفعل بفنهم ونطرب له. والذين يصادرون الفن لأنهم يخشون تأثيره السلبى على الجمهور يقيمون أنفسهم أوصياء على الفنان وعلى جمهوره، أى يغتصبون حق الفنان فى أن يبدع، وحق الجمهور فى أن يقرأ ويشاهد ويستمتع.
والجرائم تقع كل يوم بالعشرات والمئات، لكنها لا تحول من يسمعون بها أو يقرأون عنها إلى مجرمين.
والعقوبات توقع على من يرتكبون هذه الجرائم فيسجنون ويعدمون، لكن السجن والموت لا يمنع من تكرار السرقة والقتل والاغتصاب.
وفرض الوصاية على الإنسان لا يحميه من الشر، وإنما يحميه من ضميره وعقله وخبرته وقدرته على أن يراجع نفسه ويعارض غيره ويناقشه. وهكذا نواجه ما قد تؤدى إليه الحرية من شطط، ونصحح ما قد يقع بسببها من أخطاء.
أما المصادرة فلا تعالج الخطأ بل تتستر عليه، فلا يستفيد منها الذى وقع فيه ولا الجمهور الذى يتوجه إليه، بل ربما أصبح الخطأ أكثر إغراء بسبب المصادرة، وأكثر قدرة على التأثير والانتشار.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة