كل القضايا تبدأ بالمعرفة. وإسرائيل فى حياتنا هى قضية كبرى. هى كذلك لنحو قرن من الزمن. فى النصف الأول من ذلك القرن كانت إسرائيل مشروعا وفكرة، وفى 1948 أصبح المشروع دولة. وحتى تلك النقطة كان يمكن الحديث عن صراع إسرائيلى فلسطينى، بعد تلك النقطة زاد على ذلك صراع عربى إسرائيلى، وفى المواجهة مع إسرائيل المشروع والفكرة أدى نقص معرفتنا بما يجرى إلى الهزيمة أمام الدولة الناشئة التى لم تعد مشروعا فقط، ولا دولة فقط، وإنما: دولة.. ووظيفة.
وفى حرب يونيو 1967 جاء انتصار إسرائيل المدوى بمثابة صدمة لكل جيلنا، الزلزال هنا كلمة أكثر دقة وتعبيرا عما جرى لنا، ولأننى هنا لا أريد التأريخ للقضية ولا للحرب.. فسأتناول فقط ما يتعلق بنقص المعرفة.
لقد أردت، كصحفى وكاتب فى سنواته المبكرة، أن أفهم لنفسى أولا ماذا جرى.. ولماذا جرى. أردت المعرفة.. الزلزال جعلنى أفقد ثقتى فى الإعلام العربى كله، بما فيه الصحافة التى أعمل بها. هكذا قررت أن أذهب مباشرة إلى مصادر المعرفة.. أجنبية بالكامل.. وإسرائيلية إذا تيسر.
فى تلك السنوات كانت توجد رقابة على استيراد الكتب الأجنبية.. خصوصا إذا كانت سياسية، ومعادية. بعد كل الإرهاق الذى عانيته أشار علـى صديق بأن أجرب الحصول على تصريح بالذهاب إلى مكتبة أكاديمية ناصر العسكرية. الأكاديمية للعسكريين، وبالذات لكبار الضباط الذين يعدون دراسات هى بمثابة الماجستير والدكتوراه.
فى المكتبة فوجئت مرتين، مفاجأة سارة، وهى أنه فى ظل قيود على استخدام العملات الصعبة للاستيراد من الخارج تركيزا على التنمية فى الداخل، وجدت فى مكتبة أكاديمية ناصر كل وأحدث الكتب الأجنبية عن إسرائيل والمنشورة فى أمريكا وأوربا. وجدت أيضا كل ما هو منشور عن قادة إسرائيل، عسكريين ومدنيين، بما فى ذلك أكثر الكتب عداء لمصر.
ثم مفاجأة سيئة، فكل هاو أو محترف للقراءة يستطيع أن يخمن من أول تصفح للكتاب: هل هذا الكتاب سبق قراءته أم لم تفتح صفحاته؟المفاجأة كانت: معظم تلك الكتب المستوردة من الخارج أولا بأول بالدولار والإسترلينى، وبلا رقابة، بدت كأن أحدا لم يتصفحها بالمرة!
من تلك البداية ازداد إصرارى على المعرفة. ومن المعرفة كتبت دراسة مستفيضة عن إسرائيل، بتوثيق كل مصادره أجنبية.
ومع أننى كنت صحفيا وكاتبا فى «أخبار اليوم»، وهى الجريدة الأم لكل إصدارات المؤسسة، فإننى اخترت تقديم الدراسة إلى يوسف السباعى، وهو فى حينها رئيس تحرير مجلة «آخر ساعة». السباعى رحب كثيرا بما كتبت ونشر الدراسة على ثلاث حلقات بعنوان «كيف تفكر إسرائيل».. وكل حلقة من ثمانى صفحات، بما يعادل أربع صفحات من جريدة يومية.
فى ظلام نكسة يونيو 1967 ومع غليان المشاعر فى أعقابها جاء صدى نشر تلك الدراسة فى أغسطس 1967 بأكثر وأوسع مما توقعت. كان نقص المعرفة مفجعا ومؤلما. لكن مع المعرفة يصبح الطريق إلى المستقبل أكثر اتساعا وقربا.
حينما عاتبنى إحسان عبدالقدوس، رئيس التحرير الذى أعمل معه، لأننى أعطيت الدراسة لمجلة «آخر ساعة» قال بعذوبته المعتادة إنه سيتفهم ذلك.. فقط إذا فكرت فى دراسة أخرى لينشرها فى جريدة »أخبار اليوم« وتكون بنفس الهدف: المعرفة.
اتجهت بعدها إلى سلسلة أخرى، اخترت أن تعتمد مادتها فى هذه المرة فقط على الكتب الإسرائيلية. ولأنها كان ممنوعا استيرادها على الأفراد فى حينها فقد استثمرت علاقات واتصالات أجهدتنى كثيرا لكى أحصل على الكتب أولا ثم لكى أنشرها على حلقات بجريدة «أخبار اليوم» ثانيا.سلسلة عن الكتب الإسرائيلية الممنوع رسميا تداولها فى مصر.. صدى نشر السلسلة أو نجاحها لم يكن مؤكدا بالمرة فى أى لحظة، السبب كان مزيجا من البيروقراطية وضيق أفق بعض أهل السلطة، خصوصا والخيط رفيع تماما بين النشر ترويجا لأفكار العدو والنشر سعيا إلى المعرفة بالعدو. لكن نجاح السلسلة، ودعم إحسان عبد القدوس فى نشرها، جعل كثيرين يطلبون إصدارها فى كتاب صدر تاليا بعنوان «ممنوع من التداول»، الكتاب حظى بشعبية فورية جعلت طبعاته المتتالية تنفد فور صدورها، وآخرها كان عن «دار الشروق».. مع أنه فى إحدى النقاط وجدت نفسى أمام احتمال مصادرة الكتاب، ومحاكمتى شخصيا، وتلك قصة أخرى.
وبعد حرب أكتوبر 1973 على وجه الخصوص بحث عنى وزارنى كثيرون من الضباط الذين خاضوا الحرب.. عاملين أو مجندين.. ودائما كانت تتكرر فى أحاديثهم خلاصة واحدة: إن إعادة بناء القوات المسلحة كانت الأشق والأكثر جدية بأضعاف ما كان متاحا معرفته.. إننا لم ننتصر فقط بالتخطيط والأسلحة والتدريبات الشاقة. لقد تطورنا أساسا بالمعرفة الجادة بالعدو الإسرائيلى، وهى معرفة بدأت بعبدالمنعم رياض رئيس أركان الجيش الجديد بعد يونيو 1967 لكى تركز أساسا على الجندى المقاتل نفسه، أمام هذا الجندى، وبالطبع هذا الضابط، أصبحت إسرائيل كالكتاب المفتوح، لقد أصبحت المعرفة بحد ذاتها.. مصدر قوة.
وعلى المستوى الشخصى كنت أجد حرجا فى أن أكتب أو أروى بعض ما أعرفه.. إلى أن أعفانى من بعض هذا الحرج ما نشره مؤخرا الدكتور هشام عيسى الذى عرفناه كطبيب مرافق لعبدالحليم حافظ، ولأنه فى حينها كان طبيبا برتبة مقدم فى القوات المسلحة فقد كان أهل الاختصاص والسلطة يوافقون على تكليفه بملازمة عبدالحليم متابعة لحالته الصحية الحرجة.
ومؤخرا نشر الدكتور هشام عيسى حلقات فى جريدة «العربى» عن عبدالحليم حافظ بعنوان «حليم ورفاقه» أقتبس منها هنا جزءا محدودا متصلا بموضوعنا هنا.. مع اعتذارى مقدما عن طابعها الذاتى.
كتب الدكتور هشام عيسى: «.. خلال حرب أكتوبر كنت مسئولا عن إمداد الجيش بالدم.. ووقع أحد زملائى الأطباء فى أسر القوات الإسرائيلية.. وبعد عودته سألنى: هل تعرف الكاتب محمود عوض؟ قلت له: نعم.. لماذا تسأل عنه؟.. فقال لى: إن الإسرائيليين قد وجهوا إلـى عدة أسئلة خلال الأسر، وكان آخرها سؤالا يقول: هل يوزعون عليكم كتب محمود عوض من باب التوجيه المعنوى للقوات المسلحة؟
«ساعتها أحسست بالفخر لأننى صديق لهذا الرجل.. الذى لفتت كتاباته أنظار العدو الإسرائيلى.. وأعدوها من أسباب التغيير الذى حدث فى الحرب» جريدة «العربى» 19/8/2007.
مرة أخرى: كل القضايا تبدأ بالمعرفة. ومع قناعتى بذلك لم يكن ممكنا أن أرفض بالمرة دعوة كريمة جاءتنى ذات يوم من السيدة مديحة نجيب مديرة محطة «إذاعة الشرق الأوسط» لأقدم برنامجا إذاعيا يوميا يستجيب لاهتمامات ملايين المستمعين بالأحداث الجارية، خصوصا ما يتعلق منها بإسرائيل. والفكرة هنا هى أن تطرح علـى مذيعة البرنامج السيدة سوسن سامى فيما بعد سؤالا من الأحداث الجارية أتولى الإجابة عليه تحليلا وتنويرا بسيطا وموضوعيا.
اتفقنا على أن يكون عنوان البرنامج هو «من قلب إسرائيل» ويذاع صباحا قبل خمس دقائق من الثامنة، ليعاد مساء قبل خمس دقائق من الحادية عشرة، وخلال شهور قليلة من بدء البرنامج بدأت أتلقى سيلا متزايدا من رسائل المستمعين.. كما بدأت تقارير المتابعة الإذاعية تسجل مرة بعد مرة أنه بخلاف المألوف تقليديا عن البرامج السياسية فإن هذا البرنامج هو الأكثر استماعا وشعبية خصوصا بين الشباب. هذا التقييم كان يضاعف من همى ومسئوليتى وحرصى على أن أعطى لتلك الدقائق الخمس يوميا اهتماما أكبر ومعلومات أشمل تعادل فى أقل القليل سعة انتشاره وشعبيته.
لم أكن أعلم بعدُ أن هذا البرنامج أصبح له أيضا من يتربص به فى الخفاء.. وأن إسرائيل ذاتها ستصبح فى مقدمة المتربصين.
الكاتب الكبير محمود عوض يكتب: من أصـداء السياسـة والمعرفة
الجمعة، 03 أبريل 2009 12:18 ص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة