تتوالى الأيام وتمضى .. وتتلاشى الأزمنة .. فلا يتبقى له سوى الذكرى .. يحن إليها هاربا من واقع صعب غتيت .. فيتذكرها .. أتت من سراديب ذاكرته.. والحنين إلى احتوائها .. كان يناديها ب يا ستو .. اسمها مرجهان حانية كانت .. عطوفاً هى .. تتلقفه إن أسرعت أمه خلفه محاوله عقابه فتمنعها.. هى حائط الدفاع عنه .... عندما يشرب من كوب تصمم على أن تشرب بعده من نفس الموضع وتقول له :يااااااااه مطرحك حلو بشكل!!... يضحك .. تحمله فى الشتاء على رأسها لتذهب به إلى مدرسته مخافة أن تتلوث ثيابه من جراء الطريق الترابى الذى أصبح طينيا بعد المطر .. فكان يداعبها وهى تسير .. يمسك أنفها .. شفتاها .. يحجب عن عيونها الجميلة الرؤية .. وهى تضحك أبدا لم تضيق به ولا بألعابه الطفولية.
من على رأسها رأى العالم والناس والسوق والطرقات والأبنية ووصل مدرسته دون أن تتلوث ثيابه .. وتمر السنون ... وهى تأتى لمنزلهم ومعاملتها لا تتغير فهو دائما الطفل حتى لو كان شاربه قد اخضر وأينع ..وتتباعد المسافات بفعل الدراسة تارة وأداء الخدمة العسكرية تارة أخرى، لكنه دائم الحرص على السؤال عنها وزياراتها ورؤيتها فى منزلهم .. كان يلاقيها بحنو وشوق شديدين .. وبما أن النسيان آفة .. فلقد نسى أن يذهب إليها فى إجازاته البسيطة .. إلى أن جاء يوم وأخبرته أمه بمرض تلك السيدة الطيبة الجميلة .. فذهب يعدو إليها لاهث الأنفاس . ودخل إلى غرفتها البسيطة ..وجدها متكئة على سريرها النحاسى وجهها مرهق.. عيونها الجميلة خافتة .. وعندما رأته تهللت فرحة .. واحتوته فى صدرها الذى عرفه حانيا جميلا وجلس .. وحكى وتكلما .. وارتد النور إلى وجهها .. وأشرقت عيونها الجميلة وبرقت ... وتركها بعد أن سامحته على تقصيره ..وفى إجازة أخرى وبعد أن اطمأن عليها وأحضر لها كل ما يلزمها .. فى اليوم الرابع من تلك الإجازة وبينما هو يسير مع صديق له إذا به يراها أنها هى .. ترتكز على حائط قديم .. أسرع تجاهها ..أمسك بيدها.. نظرت نحوه .. ثوان مرت حتى تذكرته .. وأشرق وجهها .. نظرت له نظرة لم ينساها قط للآن نظرة حب فياض دون مقابل .. نظرة شكوى واعتزار عما بها من مرض.. قال لها وهو ممسكاً بيدها والدموع فى عينيه
مالك؟.. ليه خرجتى م البيت؟.. قالت له ببساطتها المعهودة: ما فيش شوية تعب وراحوا لما شفتك .. قال لها: انتظرى وأسرع إلى موقف السيارات اصطحب سيارة.. أوصلها إلى البيت محذرا إياها بأن تخرج .. كانت فى قمة سعادتها مع أن أنفاسها كانت تلتقطها بصعوبة ..فى اليوم التالى كان فى سفر ضرورى، وما أن وصل إلا وقد ذهب إلى بيت قريب له .. وبعد السلام قالت له زوجة قريبه بطريقتها العفوية بعد أن وضعت أمامه عصير مثلجا ..: الباقية ف حياتك أنا عارفة أنه خبر كان صعب عليك ... قال لها: اى خبر؟!... قالت: أنت مش عارف؟ مرجهان ماتت .... ذهل .. توقف .. توقفت
حواسه .. أدمعت عيناه .. قذف ما أمامه .. اكتحلت الدنيا بسواد قاتم غتيت.. انتحب.. أسرع فى الخطى هرول فى سيره.. ذهب إلى مقبرتها .. ارتكز عليها كما كان يرتكز على رأسها أيام كان صغيرا.. بكى ..بكى بحرقه كما لم يبك أبدا حدثها ... سألها أن ترد .. أن تتكلم .. ألا تتركه .. أن تصغى إليه .. أن يرى عيونها وترحل.. ألا تمتنع عن احتوائه لآخر مرة .. ولأول مرة تمتنع عنه ولا تلبى...
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة