هولاهوب قصة قصيرة لأسامة ريان

الخميس، 23 أبريل 2009 11:45 ص
هولاهوب قصة قصيرة لأسامة ريان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هممتُ بمغادرة الفِناء .. سئِمت عرض فتيات الهولاهوب المُمِل .. أمسَكَتْ بيدى، تبادلنا نظرات.. تتفاهم أعيُننا منذ فترة ليست بالطويلة، جلستُ إلى جوارِها ثانية.
جميلة الأطواق من الخيزران، مجدولة بشرائط ملونة مضفورة بورود حمراء.. يتبادلن تحريكها بتكاسل أعلى رؤوسهن، ثم يتمايلن يميناً ويسارا خارج اللحن المصاحِب.. وخارج العرض.. بادياً خوفهن من أجسادهن فى نظراتهن لجمهور زميلاتهن والأهل.. هذا ما بقى من أطواق الهولاهوب .. مجرد التبادل والتناقل، مع التمايل..
طََفَت على ذاكرتى تلك الحكاية الغامضة، فى صبانا.. جذوة الاشتراكية.. مصطلحاتٍ تغزونا.. مثل التنمية، النظام والعمل.. المواطن تِرس فى آلة ضخمة، تصلُح به، ويصلُح بها.. وذلك المسئول الكبير المهموم بقضايانا.. عبر كل وسائل الإعلام، ومؤتمرات المحافظات.. يبدو عليه الصدق من خلال حماسه ومعاونيه.. تولوا نشر ثقافة الهولاهوب..
الطوق بسيط، خيزران أو بلاستيك.. رخيص الثمن، مِنهُ كبير للكبار، وصغير لمن هم دون العاشِرة.. لا يحدّ التدريب به زمان أو مكان.. لكن ما يمنحه من نشاط وحيوية ولكل الأعمار، لا يُصَدَق.. والنموذج واضح فى شعوب تسبق الزمن..
مَلأ تدريب طوق الهولاهوب برامج المدارس والاستعراضات.. حماس ودقة المعلمين وقتها مُذهل.. نحضر مبكرا، وبسرعة نوزِع الأطواق، يعرِف كل منّا طوقه.. يتفنن فى العناية به وتلوينه بالشرائط.. يبقون معنا بعد اليوم الدراسى..
أجدْنا اللعب به.. بنين وبنات.. تشتعل المنافسات والمكافآت بين الفصول والمدارس والعروض الرسمية فى المناسبات.. نستمتع به.. بدا على أجسامنا وعقولنا نشاط ويقظة لا ألحظها الآن.. لا أذكر متى أفقنا على اتهام هذا الطوق بالفسق.. أخافنا منه الأهل بادعاءات كثيرة.. لم نفهم.. تخلصوا من الأطواق.. كنا نلعب به خلسة.. اختفى الرجل ومعاونوه.. تجاهلها المعلمون..
قلت لها.. أرفع صوتى لتسمعنى فى صخب الموسيقى:
- هل أطواق الهولاهوب مخلوقة لهذه البلاهة.. لا نستطيع إعداد فتاة واحدة لأولمبياد..
ترفع صوتها.. أسمعها بصعوبة فى الضجيج.. أرقب شفتيها:
- عارفة أنها بلاهة.. لكن أنا سأُريك كيف يكون الهولاهوب..
رفَعَت حاجباً مع ابتسامتها المُتوعِّدة..
ذلك الصباح البعيد.. شتوى باكِر.. الغرفة مليئة بالأطواق، خلف المبنى الرئيسى.. اقتادتنى من يدى، قبل طابور الصباح.. أغلَقَتْ الباب.. يدور الطوق حول خِصرها الدقيق.. له حفيف فى هدوء الغرفة.. يطرَب بينما يضرب الهواء حول جسمها المنتشى.. فتتراقص أطراف الجيب الرمادى القصير ذى الكسرات على الجوارب السوداء الطويلة، متناغِمة مع تمايل رأسها بينما تنظر إلى.. مبهوراً.. تدور به فى أنحاء الغرفة الفسيحة.. تطوِح برأسِها لأعلى لترفع شعرها الأسود المنسدل على عينيها الباسِمتين.. سارِحتين.. تسمّرتُ فى مكانى.. تبتسم شفتاها القرمزيتان وقد احمرَّت وجنتاها الخمريتان.. تلمعان بطبقة رقيقة من العرق.. أسمع أنفاسها.. لا تتوقف عن الدوران.. تحرِك ذراعيها حول الطوق الدائر، راسمة دوائر أخرى.. اقتربت منها، لا أستطيع اجتياز محيط دورانه.. تُسرِع حتى لا أقترب.. تضحك.. يرتفع صوت ضحكاتها.. كلما حاولت الاقتراب أكثر.. أرجوها:
- كفى.. تَعِبتِ، وأتعبتِنى.. أمامِك يوم عمل.. وسيبحثون عنّا.. أسمع صفارة جمع الطابور..
تردُ.. بأنفاس متقطِعة:
- أنا مبسوطة.. سوف أنتهى عندما يقع.. مش أنت قُلت أنك تُجيد لعبة الهولاهوب..
- كنت أعرف زمان.. لكن أخافونا منه.. للآن لا أعرف لماذا.. صَعُب عليهم أن نكون سعداء وفى رشاقة باقى الناس.. المصحصحين..
لم تتوقف عن اللعب والدوران بالطوق.. علَّمتهُ لأولادنا جميعاً بعد ذلك.. صبيان وبنات.. فى المنزل، كنا نستمتع بعمل المسابقات لهم.. حتى وهم فى الجامعة.. لا تكُف عن التبارى معهم، فى استراحات المذاكرة.. مع الشاى وكيكة الشيكولاتة..
تفرُّ الدموع من عينى كلما أطََلَّ على طوقُها من خلف الدولاب فى غرفتنا.. بلونه الأحمر.. يكسوه التراب.. هو الأقدم هنا، لا أقوى على تنظيفه.. يعيدنى إلى تلك الغرفة المليئة بالأطواق خلف المبنى الرئيسى..
أصَرَّت تلك الليلة أن تبعث فينا السرور.. أعلم كم هى فى حالة بالغة من الإعياء فى مرضها، والعلاج المُرهِق.. سمعت حفيف قدميها.. متباطئ.. قادِمة من فراشنا إلى الردهة حيث نجلس.. عزّ عليها وجومنا الذى اعتدناه.. صوتها يحاول إخفاء الوهن بالضحك:
- يا للا يا ولاد.. المسابقة..
يتبادلون النظرات.. قاموا، لا يتضاحكون.. ينظرون إليها كصِغار القِطة..
وقع الطوق.. لم يدُر.. كادت أن تقع.. أمسكتها.. احتضنتها، أو ما بقى منها.. بكت فى هدوء عندما انزلق غطاء رأسها.. فلا شعر تحته.. أعدته بسرعة.. أتلفت حولى، لا تُحِب أن يروها.. تنظر إلى مُرتاعة، تشبثتُ بها أكثر.. هبوا يداعبونها.. أهمس فى أذنها بإلحاح يغلب على انسياب دموعها.. وقد جف حلقى:
- لازِلتِ الأجمل.. ستزول الغُمة، وستعودين إلى.. إلينا.. وإلى الطوق..
تحبو حفيدتنا بخطواتها الأولى مع الهولاهوب.. بطوق جديد أحضرته لها.. هو أيضاً صغير..





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة