د. جمال نصار

من أخلاقنا الجميلة: الأمـانـة

الخميس، 23 أبريل 2009 11:46 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الأمانة: هى كل ما ائتمن الله -عز وجل- الإنسان عليه، من أمر ونهى لإصلاح الدنيا والآخرة.
يقول الله تعالى: {إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنَّه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72].
يقول القرطبى «الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال وهو قول الجمهور»(1).
ويقول الله تعالى: {إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين النَّاس أن تحكموا بالعدل إن اللَّه نعما يعظكم به إن اللَّه كان سميعا بصيرا} [النساء:58].
يقول صاحب الظلال -رحمه الله- «هذه هى تكاليف الجماعة المسلمة؛ وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل، على منهج الله وتعليمه، والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التى ناط الله بها فطرة الإنسان؟ والتى أبت السماوات والأرض الجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه ومعرفته، وعبادته، وطاعته، وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه، والإنسان وحده هو الذى وكل إلى فطرته، وإلى عقله وإلى معرفته... وهذه أمانة حملها، وعليه أن يؤديها أول ما يؤدى من الأمانات. ومن هذه الأمانات: أمانة التعامل مع الناس، أمانة المعاملات والودائع المالية، وأمانة النصيحة للراعى وللرعية، وأمانة القيام على الأطفال الناشئة، وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها.. وسائر ما يجلوه المنهج الربانى من الواجبات والتكاليف فى كل مجال الحياة على وجه الإجمال. فهذه من الأمانات التى يأمر الله أن تؤدى؛ ويجملها النص هذا الإجمال»(2).

ويقول الشيخ محمد الغزالى -رحمه الله- فى كتاب خلق المسلم(3): «والأمانة فى نظر الشارع واسعة الدلالة، وهى ترمز إلى معان شتى، مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته فى كل أمر يوكل إليه وإدراكه الجازم بأنه مسئول أمام ربه، على النحو الذى فصله الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع فى أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة فى بيت زوجها راعية وهى مسئولة عن رعيتها، والخادم فى مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته»(4).
والنبى – صلى الله عليه وسلم - يؤكد على هذا المعنى بقوله: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»(5).
ونلاحظ أن النبى – صلى الله عليه وسلم - ينهى عن خيانة الذين يخونوننا؟ أى أن اقتراف جريمة الخيانة من قبل الآخرين لا يسوغ لنا خيانتهم. فالخيانة ليست من الاعتداءات التى تقابل بالمثل. إن الخائن يضمن، وقد يعزر. وقد نحرمه ثقتنا وتقديرنا الاجتماعى. لكن لا يجب أن نخونه إذا هو ائتمننا.
وفى حديث آخر يقرر – صلى الله عليه وسلم - أن الأمانة شرط للدين والصلاة والزكاة، أى لقبولها، قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا صلاة له، ولا زكاة له»(6).

والأمانة واجبة للمسلمين وغير المسلمين، وللأبرار والفجار. وهذه هى السمة الإنسانية العامة لنظام الأخلاق فى الإسلام، بعكس اليهود، فكانوا يوجبون الأمانة لليهود ويستحلون خيانة الأمانة مع غيرهم، ويقولون كما سجل القرآن الكريم {ليس علينا فى الأميين سبيل} [آل عمران:75] أى لا حرج عليهم فى خيانة العرب. ولكن الرسول – صلى الله عليه وسلم - كذبهم وقال: «كذب أعداء الله، ما من شىء كان فى الجاهلية إلا وهو تحت قدمى هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر»(7).

وكثير من الناس يحصرون الأمانة فى أضيق معانيها وحدودها، فيرونها قيام الإنسان بحفظ ما يودع لديه من مال، فإن وفَّاه صاحبه كان أمينًا، وإن أنكره وتلاعب به كان خائنًا، وهذا وإن كان من معانى الأمانة إلا أنه فى الواقع أضيق حدودها(8).
والأمانة أشمل من ذلك بكثير، وهى القيام بجميع التكاليف والالتزامات الاجتماعية والأخلاقية.

• من صور الأمانة:
1- فى تولى المناصب والوظائف العامة:
فقد روى عن أبى ذر - رضى الله عنه - أنه قال: يا رسول الله: ألا تستعملنى؟ قال: فضرب بيده على منكبى ثم قال: «يا أبا ذر: إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها»(9).
وحذر الإسلام أن يتولى العمل إنسانا وهناك من هو أفضل منه وأقدر على أدائه(10).
ولذلك يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:«من استعمل رجلا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين»(11).

ويقول أيضًا – صلى الله عليه وسلم -: «من ولى من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل منه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم»(12).
بل إن الرسول – صلى الله عليه وسلم - يعد إسناد الأمور لغير المؤهلين لها تضييعًا للأمانة ينذر بقيام الساعة، فقد جاء رجل يسأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - متى تقوم الساعة؟ فقال له: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة! فقال: وكيف إضاعتها؟! قال: إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة»(13).

وعلى هذا فكل عمل له مؤهلاته الخاصة به، ولا يكتفى بعنصر التقوى والورع لتولى مهام الأمة!! بل لا بد من توافر شرطى القوة والأمانة، فشرط القوة يمثله المؤهلات العلمية والبدنية، والعقلية التى تجيد الابتكار والإبداع، وحسن التخطيط والتنظيم، وشرط الأمانة يمثله الجانب الخلقى الخاص بتقوى الله -عز وجل- ألا ترى إلى يوسف الصديق؟ إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه أيضًا(14).

وقد نفذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه هذا الأمر بكل دقة، فلم يولوا أحدًا من الناس أى عمل من الأعمال إلا وهو كفؤ له، فوضعوا كل إنسان فى مكانه المناسب(15).

2- من الأمانة إتقان العمل وإجادته:
من معانى الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملا فى العمل الذى يناط به، وأن يستنفد جهده فى إبلاغه تمام الإحسان. أجل إنها لأمانة يمجدها الإسلام: أن يخلص الرجل لشغله وأن يعنى بإجادته، وأن يسهر على حقوق الناس التى وضعت بين يديه، فإن استهانة الفرد بما كلف به - وإن كان تافهًا - تستتبع شيوع التفريط فى حياة الجماعة كلها، ثم استشراء الفساد فى كيان الأمة وتداعيه برمته. يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «الخازن الأمين الذى يؤدى ما أمر به، طيبة نفسه، أحد المتصدقين»(16).
أما إذا استغل العامل عمله أو وظيفته استغلالا سيئًا، فإنه لا يجنى من وراء ذلك إلا الإثم والهلاك(17).
يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول»(18) أى: حرام. أى: ليس أسوأ وأعظم خيانة من رجل تولى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها.

3- الرعية أمانة:
فالراعى الأمين على رعيته هو الذى يتقى الله فيهم، ويأخذ بأيديهم إلى الله، ويذكرهم به، ويشعرهم برقابته، ويأمرهم بالمعروف، ويأتمر به فيهم، وينهاهم عن المنكر وينتهى عن المنكر فيهم، ويقيم العدل فيهم، ويكون على وَجَلٍ من الله -عز وجل- يقول عبد الرحمن بن عوف: قدمت رفقة من التجار نزلوا المصلى فقال لى عمر: هل لك أن تحرسهم الليلة؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما. فسمع عمر بكاء صبى، فتوجه نحوه فقال لأمه: اتقى وأحسنى إلى الصبى ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، فقال: اتقى الله وأحسنى إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه، فقال: ويحك لأراك أم سوء، ما لى أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟
قالت: يا عبد الله قد أبرمنى منذ الليلة (أى أضجرني) إنى أريخه (أحوله) عن الفطام فيأبى.
قال عمر: ولم؟ قالت؛ لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم.
قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا. قال: ويحك لا تعجليه؛ فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم قال: يا بؤساه لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين؟! ثم أمر مناديًا فنادى: أن لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل مولود فى الإسلام وكتب بذلك إلى الآفاق(19).

4- الحديث أمانة:
فالحديث الذى يدور بين الأصحاب والجيران أمانة، فيجب عدم إفشاء ما قيل فى المجلس من أسرار، وتحريفه، بتغيير الكلام ليفيد معنى غير الذى قيل، فإن فى هذا خيانة للأمانة. وفى الحديث: «إذا حدّث رجلٌ رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة»(20).
أما ما كان فيه من التعاون على الإثم والعدوان فيكون من الأمانة إفشاء هذه الأسرار، وذلك من باب تغيير المنكر والتعاون على البر والتقوى، وفى الحديث: «المجلس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس سفك دم حرام، أو خرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق»(21).
وكم من حبال تقطعت، ومصالح تعطلت، لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، وذكرهم ما يدور فيه من كلام، منسوبًا إلى قائله أو غير منسوب.
ويدخل فى ذلك -أيضًا- إفشاء الأسرار الزوجية، فكثير من الناس يرى أن من علامات الفحولة والرجولة أن يتحدث أمام الناس عما يدور بينه وبين أهله من المعاشرة الجنسية!! وهذه وقاحة حرمها الله. فعن أسماء بنت يزيد: أنها كانت عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم - والرجال والنساء قعود عنده، فقال: «لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله. ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها! فأزمَّ القوم - سكتوا وجلين- فقلت: أى والله يا رسول الله.. إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن! قال: فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقى شيطانة فغشيها والناس ينظرون»(22).
وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة: الرجل يفضى إلى امرأته وتفضى إليه ثم ينشر سرها»(23).

5- رد ودائع الناس أمانة:
هذه الصورة من صور الأمانة هى الصورة التى يرى الناس فيها الأمانة أو الخيانة، فمفهوم الأمانة عند عامة الناس يقتصر على رد الودائع لأهلها، وإن كان هذا المفهوم قاصرًا، إلا أن هذه الأمانة بالفعل من أخطر الأمانات؛ وذلك لأن النفس تضعف عن شهوة المال، وخصوصًا إذا لم يكن لدى صاحب الوديعة ما يثبت له حقه، فحينئذ يسيل لعاب الإنسان للمال! فيعتبرها غنيمة.
عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال: «القتل فى سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة.. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة - وإن قُتل فى سبيل الله- فيقال: أو أمانتك! فيقول أى رب: كيف وقد ذهبت؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتُمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوى فى أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج زلّت عن منكبيه، فهو يهودى فى أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عدها، وأشد ذلك الودائع»(24).
وقال عليه الصلاة والسلام: «لن تزال أمتى على الفطرة، ما لم يتخذوا الأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا»(25).

هذه بعض صور الأمانة التى حث عليها الإسلام، ومنها أيضًا الأمانة فى النصح والمشورة، وتبليغ العلم، وحفظ العقل والجسم، وحفظ مال اليتيم من الأمانة.

وهكذا يتسع معنى الأمانة فى الإسلام ليشمل كل شئون الحياة من عقيدة وأدب ومعاملة وتكافل اجتماعى وسياسة حكمية رشيدة وخلق حسن كريم.
والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود، سر سعادة الأمم أو شقائها، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب فى كل هذه الأمانة والوفاء بها، كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس(26).
* دكتوراه فى فلسفة الأخلاق



ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجامع لأحكام القرآن القرطبى، 12/73، وفتح القدير، الشوكانى، 4/309.
(2) فى ظلال القرآن، سيد قطب، 2/688-689.
(3) خلق المسلم ص 42.
(4) رواه البخارى عن ابن عمر.
(5) رواه البخارى وأبو داود والترمذى والحاكم.
(6) رواه أحمد وابن حبان.
(7) روح المعانى 3/203، وأدب الدنيا والدين، ص 297.
(8) أخلاقنا الاجتماعية، مصطفى السباعى، ص 149-150.
(9) رواه مسلم.
(10) الحسبة فى الإسلام، ابن تيمية، ص 8، والطرق الحكمية، ص .258.
(11) الترغيب والترهيب 4/79.
(12) المصدر نفسه.
(13) رواه البخارى.
(14) خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالى، ص 44.
(15) الإسلام وأصول الحكم، د. إبراهيم هلال، ص 64.
(16) صحيح البخارى -كتاب الإجارة- باب استئجار الرجل الصالح: 4/449.
(17) الأخلاق الإسلامية، حسن السعيد المرسى، ص 180.
(18) سنن أبى داود - كتاب الخراج- باب فى أرزاق العمال، 3/364.
(19) أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته، ص 171- 172.
(20) رواه أبو داود، وأحمد، والترمذى، عن جابر.
(21) رواه أبو داود عن جابر، وحسنه السيوطى فى الجامع الصغير.
(22) رواه أحمد فى مسنده.
(23) رواه مسلم عن أبى سعيد الخدرى.
(24) رواه أحمد عن عبد ابن مسعود.
(25) كنز العمال: 3/65.
(26) أخلاقنا الاجتماعية، د. مصطفى السباعى، ص 154.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة