هذا العنوان مقتبس من عنوان رسالة ابن رشد المشهورة «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» فكما يتفق الدين والفلسفة عند ابن رشد فى الجوهر ويختلفان فى الظاهر، يتفق الدين والفن أيضا ويختلفان.
لكن هناك من يعتقد أن الدين والفن يختلفان فى كل شىء، وأنهما نقيضان لا يتفقان، فالدين امتثال، والفن حرية والدين ضبط للنفس، والفن انطلاق واحتفال بالحياة، والدين جهاد فى سبيل الآخرة، والفن نشاط دنيوى خالص، وغاية الدين الخير، أما الفن فغايته الجمال.
ولقد يظن بعضنا أن هذا التمييز الحاد بين الدين والفن جديد، وأن الموقف السلبى من الفن نوع من التطرف الذى زادت حدته فى هذه الأيام، والحقيقة ليست كذلك، وإنما بدأ هذا الموقف السلبى من الفن فى العصور القديمة عندما أخذت المجتمعات البشرية تفكر فى القواعد والقوانين التى يجب أن ترعاها فى تربية أبنائها ليكونوا مواطنين صالحين.
ومن الطبيعى أن يكون للدين ورجال الدين المحل الأول فى هذه المجتمعات التى لم يكن لها علم ولا فكر ولا قانون إلا الدين الذى أصبح سلطة أو مصدرا للسلطة، فالملوك فى العصور القديمة آلهة أو أبناء آلهة، وهم فى العصور الوسطى وكلاء الله أو ظلاله على الأرض، وبعض رجال الدين فى العصور الحديثة والمتكسبين منه والمتاجرين به يريدون أن يفرضوا علينا سلطتهم الغاشمة من جديد، ومن الطبيعى فى ظل هذه السلطة أن يصطدم الدين والفن ويتناقض أحدهما مع الآخر، لأن سلطة الدين هنا أصبحت سلطة رجل الدين، والفرق بينهما فرق جوهرى، سلطة الدين هى سلطة الضمير الفردى، أما سلطة رجل الدين فتعتمد قبل كل شىء على القهر والفرض والإرغام، وبهذا تتناقض مع الفن الذى لا يمكن إلا أن يكون تعبيرًا حرًا عن أحلام الإنسان الفرد وعواطفه وأفكاره وأحاسيسه.
من هنا رأينا أفلاطون يطرد الشعراء من جمهوريته، لأن الشعر بالنسبة له والفن عامة نوع من الخداع والوهم، يقوم على تقليد الواقع الذى هو تقليد لعالم المثل، فالفن تقليد للتقليد والشعر إذن نوع من الكذب الذى يجب أن يراقبه حكام المدينة ويحموا أبنائها من تأثيره الضار الذى يتناقض مع المثل العليا والأخلاق الحميدة، «فلا مكان للأكاذيب الشعرية عند الله» كما يقول أفلاطون فى «الجمهورية»، وإن أباح لحكامها أن يكذبوا، يقول فى الكتاب الثالث من «الجمهورية».
«فإذا ما أبيح لأحد أن يكذب فينبغى ألا يكون ذلك إلا لحكام الدولة، فلهؤلاء وحدهم الحق فى خداع الأعداء أو المواطنين إذا اقتضى الصالح العام ذلك، ولكن على الرغم من أننا نبيح الكذب للحكام فيجب أن نعد من يكذب من الرعايا على حكامه آثمًا»، والشعراء إذن آثمون لأنهم كذابون!
وكما نظر أفلاطون للشعر نظر إليه المسلمون، فالشعر عند الأصمعى «نكد بابه الشر، فإذا أدخلته فى الخير لان» أى ضعف وقل تأثيره، وعند قدامة بن جعفر «أحسن الشعر أكذبه»، وتكاد هذه العبارة أن تكون ترجمة لكلام أفلاطون فى «الجمهورية» الذى تحدث فيه عن ضرورة استبعاد فقرات مما قاله هوميروس فى الإلياذة والأوديسة، لا لأنها تفتقر إلى الجمال الشعرى، أو لأنها لا تلقى من الناس آذانًا صاغية، وإنما لأنها كلما ازدادت إيغالاً فى الطابع الشعرى أصبحت أكثر شرًا وازدادت قدرة على التأثير الضار!
غير أننا ننظر للدين والفن بعيدًا عن السلطة فلا نجد أى تناقض، ونجد على العكس مساحة واسعة من الاتصال والاتفاق. الدين اعتقاد والفن تساؤل دائم، لكن التساؤل والاعتقاد يتواصلان ويتجاوبان، والحدود بينهما ليست فاصلة.
الدين ليس كله امتثالاً، لأنه ليس أوامر ونواهٍ فحسب، وإنما هو أيضًا أشواق وعواطف واعتقادات لا يجوز فيها الإرغام ولا تصح إلا بالحرية، والفن بالمقابل ليس حرية كله، وإنما هو إلى جانب الحرية التى لا يتحقق بدونها إبداع، احترام للأشكال وامتثال للقواعد.
والدين ليس كله زهدًا وروحانية، كما أن الفن ليس كله انغماسًا فى متع الدنيا، والجمال حق وخير، كما أن الخير حق وجمال، والعلاقة بين الدين والفن ليست في الجوهر فحسب، بل فى الشكل أيضا، فبعض الدين فن، وبعض الفن دين.
بعض الدين فن كما نجد فى النصوص الدينية التى بلغت من الجمال الفنى حد الإعجاز، متون الأهرام، وكتاب الموتى، وأناشيد أخناتون، ومزامير داود، ونشيد الإنشاد، والقرآن الكريم، وكما كان داود نبيًا كان مغنيًا، والتوراة تسمية إمام المغنين، وقد اختلط الأمر على بعض الجاهليين الذين سمعوا القرآن للمرة الأولى فحسبوه شعرًا واعتبروا الرسول شاعرًا.
ولأن الشعر والفن عامة معرفة حدسية تتجلى للإنسان فيما يشبه الحلم أو الرؤيا فقد فسر على أنه وحى أو إلهام يتلقاه الفنان من كائن غير بشرى ظنه العرب شيطانا وظنه اليونانيون عروسًا سموها «موزا» وهو الاسم الذى عرف به فن الموسيقى، والشبه واضح بين الإلهام الفنى والوحى الدينى.
وأنا أنظر فى الحضارات والعقائد المختلفة فأرى أن الدين لا يسيطر على الجوارح ولا يتمكن من النفوس ولا يتغلغل فيها إلا بالفن الذى يتحول به الدين إلى معرفة باطنية يتدرج فى مراقيها المؤمن ويندمج فى الطبيعة وفيما وراء الطبيعة على نحو ما نرى فى التجربة الصوفية.
وكيف نتصور العقائد المصرية القديمة بدون معبد الكرنك، وأهرام الجيزة، وتماثيل حورس، وإيزيس، وأوزوريس؟ وكيف تكون ديانة اليونان بدون الإلياذة والأوديسة ومعبد أبوللون فى دلفى، ومبعد الأكروبول؟ واليهودية بدون نشيد الإنشاد؟ والمسيحية بدون الأيقونات، والتراتيل، وتماثيل ميكيل أنجلو، وموسيقى باخ؟ والإسلام بدون مساجد القاهرة وقرطبة واستامبول، وأشعار الحلاج وابن عربى وابن الفارض، وقراءة الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل للقرآن الكريم؟
وكما يكون الانفعال بالفن واحدًا لدى البشر جميعًا، بحيث أستمع إلى سيمفونية بتهوفن التاسعة فأطرب لها كما يطرب الألمانى والأمريكى واليابانى، وأقف أمام تماثيل رودان كما يقف الفرنسى أمام تماثيل مختار - كما ننفعل جميعًا، بالفن ننفعل جميعًا بالدين، فالخشوع الذى يسيطر علينا فى كاتدرائية نوتردام بباريس هو الخشوع الذى يسيطر علينا فى معابد نيودلهى وفى جامع قرطبة الكبير.
إنه الانفعال الذى يتيح لفنان أن يشارك فى عمل يخص ديانة غير ديانته، كما فعل البناء القبطى باقوم أو باخوم الذى شارك فى إعادة بناء الكعبة عندما انهار بعض جدرانها فى أواخر القرن السادس الميلادى، وكان الرسول لا يزال صبيًا، فقد ذكر الأزرقى فى كتابه «أخبار مكة» أن باخوم هذا كان واحدًا من ركاب سفينة تحطمت قرب جدة فطلب منه أهل مكة أن يساعدهم فى بناء الكعبة فبناها لهم مدماكًا من خشب ومدماكًا من حجارة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة