فى مجتمع المشاعة كان الشعر طقسا سحريا تتداخل فيه البراءة الأولى، الشعوذة، والعبادة، والرقص، كان طازجا يلذع الحس، ويلهب منابر الجسد. كبر الشعر وتفرد بقامته عندما دخل فضاء العشيرة. أصبح تعبيرا عن جغرافيتها، وقاموسا لقيمها، وتجسيدا لمعانى الفرادة والإمارة، ذلك أن الجماعة تنصهر فى القاعدة التحتية وتتلاشى ملامحها تاركة مساحة الضوء للزعيم مالك القبيلة وسيدها. كان الولاء للبطل ولاء للمستوى الحضارى عينه من جهة وانتماء لأسلوب الإنتاج الرعوى وتأكيدا عليه من جهة أخرى. وهكذا كانت القصيدة ذات اتجاه واحد تتحرك على القشرة دون أن تكسرها أو تخترقها وما يمنحها الاستمرار هو هذا الطابع المميز، وهذا الحماس الأسر. هكذا كانت القصيدة العربية فى الجاهلية لا ينافسها نوع ثقافى آخر ولا جنس أدبى آخر وهكذا كانت ولادة الشاعر مهرجانا وفرحا وامتيازا. انكسر طوق العشيرة، وظهرت الدولة كان الفرد فأصبح مؤسسة دولة وكان الرعى والتجارة. فصارت الزراعة والحرفة. وكانت الخيمة فأصبحت المدينة، تعددت مستويات الشعر حيث تعددت أساليب الحياة إنتاجا وثقافة وطبقات، لم يعد الشعر وحيدا فى الساحة. الأنواع الثقافية بدأت تزاحمه من فلسفة ونقد، وتاريخ، وفقه، لقد تنوعت أصوات الحناجر، لأن الطبقات والفئات الاجتماعية تنوعت فتبدل ترتيب الأوليات اجتماعيا وثقافيا.
كانت قصيدة قطرى بن الفجاءة الشهيرة تعادل جيشا. وكانت صرخة (وا معتصماه) تحرك إمبراطورية وتعلن حربا، ولكن المرحلة التاريخية انقضت وذهب معها المثل الأعلى للقصيدة المطلوبة ونحن الآن أمام مرحلة تتشكل، الطبقات تعيد النظر فى أساليبها وتصوغ بدايات ثقافتها ووجودها والأمة العربية تجتاز مرحلة المخاض تتلمس ذاتها، وتبلور شخصيتها، الأصوات تتنوع وتتعدد وتتداخل تحت تأثير الواقع المحلى والتيارات الثقافية الوافدة. فى هذا الفضاء المكتظ يتحرك الشعر، يتنفس، يعيد صياغة نفسه، المهام الجديدة أمام الشاعر والقصيدة ليست كالأمس ليس الشعر تاريخا إنه فاعلية اجتماعية جمالية تتوقف صحته ومداه على بنية المجتمع وتشكيلاته الاجتماعية والطبقية، كما تتحدد وظيفته الجمالية والفكرية على ضوء الطبقة التى ينتمى لها والمرحلة التاريخية التى تجتازها الأمة والطبقة معا. ليس المطلوب من القصيدة أن تكون ديوانا للعرب، فهذه المهمة تنازل عنها الشعر وليس الشعر مطالبا بتحريك الجماهير لأن وسائل تحريك الجماهير تتوقف على نوعيته إنتاجا ووعيا فهذه مهمة السياسة ووسائل الإعلام الأخرى، ربما. لماذا البكاء على الشعر العربى المعاصر؟ إنها معافى ومزدهر، ذلك أنه إنتاج نوعى لنشاط هذه الأمة، وانعكاس طليعى لواقع هذا النشاط بإيجابياته وسلبياته، مهمة وبنيانا، ومستوى، إنه سباق فى صياغة الثقافة الجديدة وتوجيه الرأى العام ورسم خريطة المجتمع والوطن معا، كما يقوى لا كما يتمنى الكسالى ولم يعد الشعر ديوانا عربيا.
عبد الناصر عبد الرحيم يكتب: لماذا البكاء على الشعر؟
الخميس، 23 أبريل 2009 10:57 ص