"نقد العقل المصرى" كتاب يصدمك منذ صفحاته الأولى، لأنه يبحث عن نقطة ضوء واحدة وسط سواد كثير فى حياتنا، لذا يقف الباحث كثيرا متسائلا: ما الذى نفعله بأنفسنا وبوطننا؟ ما الذى يفعله الحاكم والمحكوم على حد سواء؟ إننا نحرق الوطن، ونحرق أبناءنا، ونحرق أنفسنا دون أن نعى، ونردد "على وعلى أعدائى"، ونستمر فى سفك دماء أنفسنا ودماء الآخرين، حتى أصبح الوطن مستباحاً بين قبضة الحاكم وقدم المحكوم.
تحمل السطور القادمة حوارا مع الباحث الدكتور زين عبد الهادى، وكتابه الصادم "نقد العقل المصرى المعاصر"..
* لو جئنا بأى رجل أو امراة من الشارع ووضعناه على كرسى الحكم فى مصر، ما الذى سيفعله؟ وهل ستكون هناك فروق فى الحكم بين أكثر الدعاة للديمقراطية، وأشد غلاة الديكتاتورية؟
فكرة الملكية والسيطرة وحب السلطة والقيادة تولد مع بعض البشر، ولا يمكن هدمها بل ينبغى تشجيعها وتقويمها كى تسير فى الطريق الصحيح، لكن مشكلة السلطة فى مصر يحددها مثل فولكلورى قديم " قال يافرعون إيش فرعنك، قال مالقيتش حد يردنى"، بشكل شخصى أنا أشك فى أكثر المدافعين عن حقوق الناس بأنه لو تسلم السلطة، فإنه خلال سنوات سوف يتأرجح كرسيه على بحر من الدماء.
* هل يمكن القول بأن المواطن المصرى العادى يعانى نوعا من الشيزوفرينيا فيما يتعلق "بجين" السلطة الوراثية داخله؟
نعم، إذا كنت حاكما فأنت الإله، وإذا كنت محكوما، فأنت الأرنب، والخارج عن التصنيف قلة قليلة، هذا التسلط والقهر جاء عبر تاريخ طويل من الزمن المبنى على القهر والاستعباد، ولا يقتصر على الحاكم، وإنما يمتد إلى كل رب عمل، ورب أسرة، وفى الأغلب الأعم، إلى كل شخص تم استئمانه على شخص أخر، انظر إلى أساتذة الجامعة وهم يمارسون نوعا مقززا من الديكتاتورية على الطلاب، وعلى زملائهم الأقل منهم مرتبة، والأسطى فى محل الميكانيكى وهو يمارس قوة غاشمة على صبيانه، والفلاح الذى جاء من قريته وينتمى لمهنة الصحافة النبيلة، تجده فى منصبه يمارس السلطة فى أسوأ صورها، رغم انتمائه الشكلى لطبقة المثقفين، ليثبت أن مثقفا واحدا أسوأ من مليار أمى فاسد، حتى المثقفين الذين يجلسون على مقاعد السلطة، إما مدافعون عنها بشكل مثقف أو مدافعون عن الثقافة بشكل متسلط، ونادرا ما تجد مدافعين عن الثقافة وحدها.
* ما الذى يدفعهم إلى ذلك؟
لا أدرى، ربما غياب الرقابة أو تغلغل الخنوع أو الرغبة فى القوة والثراء، فى النهاية تصبح الدوافع لا معنى لها، حين تكون السلطة "كديل الكلب عمره ما ينعدل"، وحتى إذا كان العلاج هو الديمقراطية، فقد استخدمنا الديمقراطية فى التاريخ المصرى المعاصر أسوأ استخدام لتحقيق أقصى أحلامنا الديكتاتورية قسوة وتفردا.
* ما هى حكاية القتل التسلسلى الذى تراه نذير شؤم فى المجتمع؟
ببساطة انظر إلى المثقف أستاذ الجامعة، مثلا، حين يشعر بأن أحد أبنائه من المعيدين أو المدرسين قد انتقد فكرة له بشكل علمى مهذب، تتمحور المسألة بعد قليل من مرحلة عدم قبول الآخر إلى مرحلة الثأر والرفض بعنف، إلى تهديده فى مستقبله وحياته الأكاديمية، ويحمل الطرف الأضعف هذه الغصة والإهانة داخله ليمارسها بشكل أعنف على تلامذته، فلا يبقى ولايذر، وهكذا فى بقية الوظائف والأعمال، كل صاحب عمل يرتكب الجريمة الأولى، يترك فى البقية رغبة فى الثأر تكاد لا تمحى، نزولا فى سلم السلطة إلى أدنى درجة، ويصل الحال أحيانا إلى الانتحار كأنه نوع من الثأر الذاتى "بيدى لا بيد عمرو".
* ما الذى حدث كى تصبح مصر فى هذه الفوضى؟
لقد وصلنا بالفوضى إلى أقصى حدود التطرف، وانظر إلى الشارع ستجد خليطا عجيبا قل أن تجده فى أى مكان فى العالم، كرنفالا من الثياب، المتبرجات والمحجبات والمنقبات، وأصحاب السراويل القصيرة، وأصحاب اللحى، والقمصان الملونة، وكذلك العمارات الشاهقة والبيوت القصيرة، والسيارات التى تقف صفوفا طويلة، ووسط كل هذا الباعة المتجولون، والشحاذون، والطلاب الذين يتسكعون ويشربون السجائر، والمخدرات.
سأطلب منك أن تدخل فى عقل أى طفل مصرى الآن، أو امرأة أو رجل، واكتشف بنفسك حالات الفوضى الفردية، عقول تنتابها الهواجس والوساوس والكآبة والأرق والحزن والمرض، لا حسيب ولا رقيب ولا قانون ولا أى شىء جميل يستحق أن نقف أمامه، ولماذا نقف ونحن نسير بسرعة، ونأكل بسرعة ونشرب بسرعة ونمارس الجنس بسرعة، ونتعبد بسرعة دون أن ننظر خلفنا أو حتى أمامنا مثل الحصان الأعمى الذى يمكن أن يقتل فى لحظة، كما يمكن أن يتم قتله فى لحظة.
* ماذا تقصد بتحقير الذات عند المصريين؟
كنت فى أحد فنادق النجوم الخمسة على ميعاد مع أحد الأصدقاء حين دخل أستاذ جامعى مصرى لامع الوجه أحمر البشرة، لزج الشعر، أقبل على أحد الخليجيين فقبل يده، وقال له "يا مولانا"، واكتشفت أننى أمام أحد الأساتذة فى كلية قانون معروفة، والرجل اسمه كالطبل فى كل الصحف، واكتشفت أن حقارة الذات وصلت إلى درجة ميوعة كلمة "باشا" بين المسئولين عن أمن الشارع والمواطن. وسألت نفسى عن الدور الذى نمارسه الآن على الساحة الدولية؟ هل هو دور الوسيط أم العبيط؟، وقلت فلنستمر فى إهانة اسم مصر وتاريخنا كله، فقد أصبحنا من أبناء الذات الحقيرة.
* نلوم من فيما حدث؟
نلوم أنفسنا أولا لأننا ارتضينا ذلك، ثم نلوم نظام العبيد فى التعيين، من أول عمدة القرية للوزير والغفير والمدرس وموظف الحى الذى لا يستغل علمه سوى فى الرشوة وتشويه العمارة التى كانت يوما جميلة.
لمعلوماتك:
* زين الدين محمد عبد الهادى باحث وروائى يشغل منصب رئيس قسم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب جامعة حلوان منذ 2004. كما شغل منصب مستشار المعلومات وتطوير النظم – المنظمة العربية للتنمية الإدارية منذ 2005 وحتى أكتوبر 2008.
* ومن أعماله الأدبية والفكرية:
روايات: "المواسم" 1995 عن دار العربى للنشر والتوزيع، و"التساهيل فى نزع الهلاهيل" 2008 عن المؤسسة المصرية العامة للكتاب، و"مرح الفئران" 2006 عن دار ميريت، و"دماء أبوللو" 2008 عن دار ميريت، وأخيرا كتابه "نقد العقل المصرى" صدر عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام.