يبدو أننا أفرطنا فى سوء الظن بالحكام العرب، الذين يَجْـثِم أكثرُهم على قلوب شعوبهم منذ عدة عقود وصلت ببعض الدول إلى أربعة عقود مرشحة للزيادة، إن لم تتدخل السماء!! وسبب كلامى هذا أننى قرأتُ مؤخرًا تصريحاتٍ لأديب نوبل الروائى الكولومبى الشهير جابرييل جارثيا ماركيز، ينفى فيها بشدة ما أُشيع عن اعتزاله الكتابة. وجاء نفى ماركيز، تعليقًا على تصريحات سابقة لوكيلته الأدبية كارمن بالثيس. وكانت كارمن قد قالت: "إن الروائى جابرييل جارثيا ماركيز قد يعتزل الكتابة". والسبب فى رأيها أن الرجل لم يكتب سطرًا منذ عام 2004م.
وهذه التصريحات أغضبت ماركيز فيما يبدو، معتبرًا أنها تنال من قَدْرِه؛ فانتفض مُصحِّحًا ذلك الكلام المُغرِض قائلاً: "لا يُعتَبَر ما أشيعُ خطأ وحسب؛ بل على العكس.. فأنا لا أفعل سوى الكتابة". وماركيز عمره الآن 82 عامًا، ويُعَدُّ واحدًا من أبرع الروائيين فى الكون، وأشهر أعماله رواية "مئة عام من العزلة" ُترجمت إلى 35 لغة، وبِيع منها أكثر من 30 مليون نسخة فى مختلف أنحاء العالم، كما أنه صاحب أغلى قصة؛ حيث قبض 3 ملايين دولار مقابل تحويل روايته "الحب فى زمن الكوليرا" لفيلم سينمائي!
ذكّرتنى تلك الواقعة بمشكلة بعض أقاربي؛ حيث إن أباهم (متعه الله بالصحة والعافية) تجاوز السبعين من عمره، ويمتلك ورشةً بإحدى مدن الدلتا؛ مشهورة بجودة إنتاجها. وللرجلِ ولدان شقا طريقهما فى الحياة بعيدًا تمامًا عن هذا النشاط. وكلما اجتمعت الأسرة؛ ظلَّ الأب يتضوَّر ألمًا من كثرة الأعباء التى باتت تنوء بكاهله؛ متمثلة في: مشاكل العمالة، وطلبات الزبائن التى لا تنتهي، وعدم ثبات أسعار الخامات، وصيانة آلات الورشة. فإذا أشار عليه أبناؤه من طرفٍ خَفى بأن يتخفف قليلاً من بعض أحماله ويُقلِّص من حجم نشاطه ليتناسب وحالته الصحية والعُمْرية؛ ينبرى الأبُ غاضبًا قائلاً لأولاده: "يعنى المطلوب منى اروح المقابر وأفتح واحدة منها واتمدّد فيها؟ أنا مش هاسيب شغلى لحد ما أموت"!!
أظنكم قد عرفتم الآن تفسير تشبُّث بعض الحكام العرب بكراسيهم؟! فأكثرهم لديه شعورٌ بأنه الزعيمُ الأوحد، الذى لم تُنجب الأمة مثله؛ ولذا فقد قرر - كرمًا منه - أن يُضحِّى بنفسه، وأن ُيكمِل مسيرة العطاء والبناء والتنمية والتعمير؛ حتى آخر نَفَس فى عمره!
صدقونى بلا أى سخرية: المسألة صارت حالة نفسية تستعصى على العلاج؛ فلن يتخلى أى شخصٍ من ذوى المناصب فى بلادنا العربية - إلا مَنْ رحم ربى - عن مقعده بسهولة، ولن يقتنعَ بأن يتزحزح من مكانه إلى آخر بديل لأى سبب؛ فلا أحد يريد أن يعترِفَ لا بالزمن، ولا بتواصل الأجيال، ولا بسُنَّة التغيير.
ومن رحمة الله علينا أن جعل كلَّ شيءٍ بالكون يتعاقب ويخلُفُ بعضُه بعضا: الليل والنهار، الصيف والشتاء... فسبحان من لا يَتبَدَّل وحدَه.. ألا "يا ليت قومى يعلمون".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة