قبل شهرين أعلن المجلس الأعلى للثقافة عن جائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة، وكان ضمن شروطها ألا يزيد عمر المرشح للجائزة عن أربعين عامًا، وأن تكون المجموعة المرشحة قد صدرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وأن الترشيح للجائزة يحق للمصريين والعرب. غير أن نص الإعلان لم يتحدث عن القيمة المالية للجائزة رغم أنه أعلن بوضوح عن موعد إعلان نتائجها الذى كان مقررًا فى نوفمبر المقبل فى مؤتمر خاص بالقصة القصيرة. وعندما بدأ الأصدقاء فى التقدم لترشيح أعمالهم وفقًا للشروط التى أوردها الإعلان كانت الموظفة ترد بطريقة غامضة معلنةً أن الإعلان "إياه" قد أُلغى وأن لجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة مازالت تبت فى مسألة السن الخاص بالجائزة. وعلى كل لبيب أن يفهم بالإشارة.
ولأن القيمة المالية للجائزة قد ارتفعت هذا العام لتصبح 100000 جنيه مصرى بالتمام والكمال، فقد رأت لجنة القصة أن مبلغ الجائزة من الضخامة بحيث يجب فتح شرط السن ليسمح للجنة باختيار من تريد من الندماء والمريدين والمعمرين أطال الله فى أعمارهم، حتى يتكرر السيناريو نفسه جائزة الشعر هذا العام، وربما يمنح رئيس مؤتمر القصة الجائزة لنفسه تمامًا مثلما حدث مع جائزة الشعر حين أُذْهِبَت للشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى مع كل احترامى له وتأكيدى على أن هذه الجائزة ليست جديرة به. بطبيعة الحال لم تهتم اللجنة المزعومة التى قالت عنها الموظفة فى إدارة الجوائز والمسابقات فى المجلس بالكتاب العرب الذين رشحوا أنفسهم وأرسلوا أعمالهم بريديًا، ولا أظن أن المجلس قد كلف نفسه إبلاغ الكتاب الذى أرسلوا أعمالهم لترشيح أنفسهم بأن الإعلان "إياه" قد أُلغى، وأن ترزى المسابقات فى المجلس الأعلى للثقافة يؤسس شروطًا جديدة كى يمنح الجائزة التى تفاقم مبلغها لمن يريد من الأحباء، حيث لا مكان فى المجلس للأعداء أو المناهضين أو الحالمين بالشفافية والدرس النقدى المحايد.
فى العام الماضى كانت القيمة المالية الجائزة نحيفة هزيلة صغيرة، ومن ثم ذهبت عن طيب خاطر للكاتب محمد إبراهيم طه، وفرحنا، لأن هذا الكاتب جدير بكل تقدير، أما هذا العام فقيمة الجائزة قد قفزت بما يغرى الكبار للعب فى اللوائح وتغيير الشروط بحيث تتسع العباءة لتشملهم بالمحبة. الكبار يجلسون معًا فى حديقة الديناصورات يخططون لمستقبلهم الجديد المجيد، ينتقون ويصطفون وينتخبون الأفضل للأفضل. والأكبر للأضخم، والأجمل للأجدر، وهكذا وهكذا، فلا حتوف عندنا للديناصورات ولا استكانة إلا مع الرمق الأخير.
نحن لا نريد أن نتعلم درسًا واحدًا من أى منهج. لا نريد أن نتعلم أن جائزة بوكر العربية فى الرواية مثلاً تبحث عن الرواية الحقيقية بغض النظر عن الأسماء، أو تاريخها حقيقيًا كان أو مزيفا. وكانت الأوساط الثقافية المصرية تردد بحمق قبل إعلان الجائزة فى دورتها الثانية، أنه ليس من المعقول أن تذهب الجائزة إلى مصر لعامين متتاليين. ولأننا أبناء ثقافة الطوابير، تصورنا أننا بصدد جوائز الدولة، ونسينا أنها جائزة البوكر التى تم تدشينها على غرار جائزة البوكر البريطانية (الجائزة الأعظم فى الرواية على الإطلاق فى العالم)، ومن شابه أباه فما ظلم. فجائزة بوكر البريطانية لا تجد غضاضة فى أن تمنح جائزتها للهنود أو الباكستانيين أو النيجيريين، أو حتى أبناء كفر طهرمس لو أنهم كتبوا الرواية الرواية، أفهمنا؟!! الرواية الرواية، الإبداع الإبداع! إنه الدرس النقدى الحقيقى يا سادة هو الذى منح تغريدة البجعة مكانًا فى القائمة القصيرة العام الماضى بغض النظر عن مكاوى سعيد، وهو الذى جعل عزازيل درة تاجا بغض النظر عن يوسف زيدان. الدرس النقدى الحقيقى أعمى أمام الأسماء، حاد البصر ونافذ البصيرة أمام الإبداع الإبداع. هل فهمنا... هل نريد أن نفهم؟!
أصدقاء كثيرون يسألون عن غياب الناقد المصرى عن الجنة التحكيم فى بوكر لدورتين متتاليتين، وأظن أن الإجابة الآن بالغة الوضوح: نحن دائمًا نتصور أن سوآتنا لا يراها أحد؛ والحقيقة غير ذلك. فالثقافة العربية تعى أن النقد فى مصر مطعون فى مقتل والنقاد فى مصر يفضلون أهل الثقة على أهل الخبرة؛ ولا يفرقون بين العقد الإنسانى والعقد الإبداعى والمثقف المصرى يصرخ فى كل مكان شجبًا وتنديدًا بالفساد بينما هو، فى واقع الأمر، أحد أكبر المساهمين فى منظومة الفساد التى اتسعت وكبرت وتضخمت بحيث أصبحت جديرة بكلمة منظومة.
القضية هنا ليست قضية جائزة يوسف إدريس، فلتذهب جائزة يوسف إدريس إلى الجحيم وليمنحوها لمن يريدون طالما ارتضوا أن يشتروا المزيد من الأسهم فى منظومة الفساد، ولكن هل يتسع المجال هنا لبضع كلمات عن فقر الروح؟ نحن أعنى المثقفين فى بلادنا بطولها وعرضها، والمصريين فى بلادنا بطولها وعرضها يعانون نوعًا جديدًا من الفقر: فقر الروح. الفقر الذى يجعلنا فى غفلة عن المسار الصحيح للأشياء، الفقر الذى يفقدنا الحد الأدنى من المصداقية أمام أنفسنا وأمام العالم.
الفقر الذى يدفع اتحاد كرة القدم لاستئجار طاقم حكام أجنبى لإدارة مباراة الأهلى والزمالك كل عام. الفقر الذى يجعل كل كتاب مصر يبصقون على جوائز الدولة وينعتونها بطابور "الخبز الحكومى"، وأن الطابور معروف والعدد معروف وأن على كل من يلتزم بقواعد هذا الطابور أن يبقى، وكل لبيب عليه أن يفهم بالإشارة: "عليك بإقصاء نفسك طالما أن شروط الطابور لا تنطبق عليك." قبل سنوات فتحوا شرط السن فى جائزة الدولة التشجيعية وحصل عليها أدباء فى عمر الزهور (ستين سنة فما فوق)؛ وتعجبت: على ماذا نشجع ابن الستين أو بنت الستين؟!! وهل ابن الستين جدير بالتشجيع أم التقدير، أم بالـ..... وهذا العام يقوم ترزى اللوائح بالمجلس بحبك الشروط بحيث تتسع لتشمله وتشمل آخرين فى جائزة يوسف إدريس. لى سؤال أخير: لو أننى محق فيما أقول (ولا أكون متطرفًا إذا ما قلت إننى بالفعل محق) لماذا لا تطرح جوائز الدولة ضمن شروطها قائمة بأسماء من تريد من الأدباء والكتاب، تطبيقًا لكل مبادئ الشفافية التى نعيشها فى هذه الأيام الوارفة بفقر الروح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة