فى غضون الأسابيع القليلة القادمة ينضم 17 ألف جندى أمريكى إلى زملائهم فى أفغانستان فى محاولة لكسب حرب يؤمن كثير من الخبراء العسكريين باستحالة كسبها. لكنّ الوضع فى أفغانستان لا يشبه تماماً الوضع فى العراق عندما قام بوش بخطوة مماثلة.
وسوى ميزانية الحرب الجديدة التى تحمل أرقاماً مذهلة وسط أزمة مالية ضروس لا تزال تهبط بنا من سيئ إلى أسوأ، فإن أحداً لا يعلم لمفهوم «الانتصار» فى هذه الحرب تعريفاً محدداً. وحين يحدث ذلك تختلط الأمور ويصعب تصديق أن أوباما يسعى حقاً إلى مصالحة بين الغرب والشرق ينتصر فيها الجميع.
بدأ يطفو إلى سطح الأدبيات العسكرية الأمريكية مصطلح جديد هو Af-Pak (آفباك) اختصاراً لـ«أفغانستان باكستان» وتعبيراً عن امتداد مسرح العمليات العسكرية رسمياً من أفغانستان إلى باكستان على نطاق واسع. لن يتوقف هذا الامتداد على ما عهدناه من عمليات خاطفة على الحدود، بل إن من المنتظر أن يتغلغل إلى قلب باكستان. بعبارة أخرى، تنتقل اليوم الولايات المتحدة من مواجهة دولة صعبة المراس جغرافياً وتاريخياً، تعداد أهلها 27 مليوناً تمكن منهم الفقر والجهل والتطرف، إلى مواجهة دولة فى غاية التقدم بالمقارنة، تعداد أهلها أكثر من ستة أضعاف الأولى، لديها جيش ضخم العدة والعتاد وقنبلة نووية واقتصاد يتهاوى وتطرف يتصاعد وفساد يستشرى ومشهد سياسى بائس.
لا يعنى هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت الحرب على باكستان بالمفهوم التقليدى للمصطلح. لكننا أمام وضع استثنائى غريب تقف التوازنات الدقيقة فيه على حد سكّين. فمنذ صبيحة الحادى عشر من سبتمبر كانت باكستان أول دولة تتعرض لبلطجة راعى البقر الأمريكى فى أقبح صوره عندما نقل مدير استخباراتها إلى رئيسها رسالة من نائب وزير الخارجية الأمريكى مفادها أنه إذا لم تكونوا على استعداد للانضمام إلينا فى الحرب على الإرهاب «فاستعدوا للقصف بالقنابل، استعدوا للعودة إلى العصر الحجرى«. اضطر الرئيس الباكستانى بعد هذه الرسالة إلى استجداء شعبه كى يتفهم مثوله للإملاءات الأمريكية فى خطاب متلفز: «أرجوكم أن تثقوا بى، أرجوكم أن تثقوا بى».
لكن باكستان، وهى إحدى دولتين اثنتين فقط ظهرتا فجأة فى العالم على أساس دينى واضح ومعلن فى دستوريهما (الثانية هى إسرائيل)، أثبتت تاريخياً منذ نشأتها عام 1947 أنها دولة أكبر من رؤسائها. من وجهة النظر العقائدية والسياسية والأمنية الغربية، وبكل تأكيد من وجهة نظر جارتها الكبرى، الهند، التى يفضلها الغرب، ستبقى باكستان دائماً خُرّاجاً ومصدر قلق لا ينفيهما تعاون حكومى تحكمه لحظة زمنية. وفى هذه اللحظة الزمنية بعينها يدرك الأمريكيون أنه كان ينبغى عليهم أن يتناولوا مسألة أفغانستان فى إطار أوسع، وأنه كان ينبغى ترجمة هذا التناول إلى استراتيجية واضحة وسياسات قابلة للتطبيق على أرض الواقع... فى باكستان.
تستخلص الإدارة الأمريكية أنه لا بديل عن ذلك اليوم ويتفق معها قادة الجيش. فحتى قبل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة كان باراك أوباما يؤمن دائماً بأنه لا يمكن حل معضلة أفغانستان بمعزل عن باكستان، وعقب انتخابه اختار الرئيس دبلوماسياً مخضرماً، هو ريتشارد هولبروك، منحه لقب «المبعوث الخاص إلى أفغانستان وباكستان» كى يقود الجناح السياسى للحملة الأمريكية فى ثوبها الجديد. صرح بهذا مؤخراً فى حديث له مع هيئة الإذاعة البريطانية، بى بى سى، بأن «المشكلة الأولى فى ضمان استقرار أفغانستان هى ملاذات طالبان فى غربى باكستان، بما فى ذلك المناطق القبلية بحذاء الحدود الأفغانية ومدن مثل كويتا» فى إقليم بلوشيستان الباكستانى.
الكلمة التى وقع اختيار العسكريين الأمريكيين عليها فى السنوات القليلة الماضية للتعبير عن الزيادة الطفرية فى عدد القوات هى كلمة Surge وهى تعنى حرفياً «موجة» إضافية. غير أن ما يحدث الآن يتعدى بكثير مجرد موجة. فى الواقع تقترب ملامحه أكثر ما تقترب من مفهوم «الحملة« المتكاملة. فى حديث له أخيراً إلى برنامج «60 دقيقة» على شبكة سى بى إس الأمريكية كانت الكلمة الأكثر تكراراً على لسان أوباما هى كلمة More (أكثر): مقاتلون أمريكيون أكثر، دبلوماسيون أمريكيون أكثر، مستشارون مدنيون أكثر، مستشارون عسكريون أمريكيون وأطلنطيون أكثر لتدريب الجيش الأفغانى والشرطة الأفغانية، مواقع جديدة لقواعد ونقاط مراقبة أمريكية أكثر، حملات مداهمة لزراعة النباتات المخدرة أكثر، مساعدات مادية للجيش الباكستانى أكثر. ولا تشمل هذه القائمة كما هو واضح الحرب الخفية التى تقودها وكالة الاستخبارات المركزية، سى آى إيه، التى سيتم تكثيفها وتوسيع نطاقها بلا شك.
لا يوجد رقم واضح للتكلفة النهائية لهذه الحملة ولكن، حتى نتخيل فى أى فلك تدور، قام وولتر بينكوس فى صحيفة الواشنطن بوست بالنبش فى تكاليف أعمال البناء والطرق المرتبطة بالحرب فى أفغانستان فوجد أن سلاح المهندسين الأمريكى وحده يقوم بتشغيل أكبر عدد من الموظفين بعد الحكومة الأفغانية فى بلد فى أمس الحاجة إلى فرص العمل. خلال هذا العام وحده يقوم سلاح المهندسين بإنفاق أربعة مليارات دولار على أنشطة مرتبطة ببناء الطرق، كما سينفق من أربعة إلى ستة مليارات أخرى لمزيد منها فى العام القادم. وكان قد أنفق فعلاً حوالى مليارى دولار فى بناء قواعد وتسهيلات للجيش الأفغانى والشرطة الأفغانية، سيقوم ببناء المزيد منها خلال هذا العام بميزانية إضافية تبلغ ملياراً ومائتى مليون دولار. ومن المتوقع أن يقوم بإنفاق ما حجمه بين أربعمائة مليون إلى مليار وأربعمائة مليون دولار على بناء ست قواعد ومطارات عسكرية تحتاج إليها القوات الأمريكية الإضافية التى ستتمركز فى جنوب البلاد.
أضف إلى ذلك الرواتب المرتفعة (والإمدادت والإسكان والبدلات) لمئات الدبلوماسيين والمستشارين الذين ستتم إضافتهم فى إطار «الطفرة المدنية»، ثم أضف إليه مبلغ المليار ونصف المليار دولار التى وعد بها الرئيس الأمريكى وأكدها نائبه على شكل مساعدات اقتصادية لباكستان على مدى الأعوام الخمسة القادمة، وبعد ذلك أضف مبلغاً ضخماً غير معلوم على شكل مساعدات عسكرية للجيشين الأفغانى والباكستانى. وحين تنتهى من عمليات الجمع والجمع تكون قد بدأت فى حك قشرة المصروفات الأمريكية على هذه الحملة. وإذا كنت تعتقد، مثلما كان كثيرون يعتقدون، أن هذه التكلفة المذهلة سيتم تغطيتها، أو تغطية معظمها على الأقل، من خلال التوفير الناتج عن الانسحاب من العراق فإننى أدعوك إلى التفكير مرة أخرى؛ إذ تؤكد دراسة حديثة لمكتب محاسبة الحكومة أن النفقات المادية المتعلقة بالعراق ستزيد فى الواقع أثناء عملية الانسحاب عما هى عليه الآن وستبقى هكذا لسنوات عديدة بعده.
فى الوقت الذى تحتاج فيه الولايات المتحدة (ويحتاج معها العالم كله) إلى توجيه كل دولار نحو محاربة الأزمة المالية العالمية (التى لم نر أسوأ فصولها بعد) فإنه ليس من المستبعد فى ظل ذلك أن يتحول الرئيس الأمريكى الواعد، باراك أوباما، إلى ما يمكن أن نطلق عليه «رهين المحبسين» على الأقل للفترة الرئاسية الأولى (إذا افترضنا أنه سيحظى بثانية). تزيد احتمالات ذلك فى ظل غياب رؤية محددة لما يراد إنجازه فى هذا القطاع من العالم المسلم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة