من أدب الجاسوسية

من ليالى غزة.. قصة للكاتب عبد الله يسرى

الأربعاء، 22 أبريل 2009 09:00 م
من ليالى غزة.. قصة للكاتب عبد الله يسرى للكاتب عبد الله يسرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان ابن الاثنين وعشرين عاما حينما كان فى السنة الثالثة، تعلم الأدب الأنجليزى بالأزهر الشريف بفرعه فى مدينة غزة، وكان يقيم مع أبيه وأشقائه السبعة وشقيقاته الأربعة، أسرته متوسطة الحال، تعيش على دخل متواضع من بقالة مملوكة لأبيه فى رفح.. كانت أحلامه أكبر من واقعه المحدود والمُحاصر..

اختار مع أستاذه أن يقوم بعمل بحث حول رائعة شكسبير "الملك لير" فبدأ فى ارتياد مكتبة المركز البريطانى "البريتش كاونسل" العامر بالمراجع فى جو مناسب للكتابة والتفكير، وهناك قاده فضوله للتعرف على رجل كندى الجنسية يدعى " تيري" وهو أستاذ لعلم الاجتماع فى جامعة أوتاوا، ويقوم بعمل دراسة حول الظروف الاجتماعية للفلسطينين فى غزة.

بعد تجاذب العبارات والأسئلة حول حلم أكرم ورؤيته للواقع الفلسطينى، عرض تيرى عليه العمل معه كمساعد مقابل أجر فى الشهر يصل إلى 100 دولار أمريكى..

خطوة بعد خطوة توطدت العلاقة بينهما ووعد تيرى أكرم بمساعدته فى السفر إلى كندا، حيث قد ضاق أكرم بالواقع فى غزة الذى لا يتوافق وطموحاته فى السفر والمال والشهرة.

أحضر أكرم صورا فوتوغرافية له، لاستخراج بطاقة هوية له من السفارة الكندية فى تل أبيب كما وعده تيرى فى خطوة بدت كأنها تمهيد للخطوة التالية، وهى ملء استمارة تأشيرة سفر إلى كندا..

وفى صدفة أخرى قدم تيرى أكرم إلى مواطن كندى يُدعى ديفيد، لم يستغرق أكرم وقتا طويلا حتى كان صديقا حميما للرجلين، يخرج معهما للملاهى الليلية فى تل أبيب ويقرضانه المال ويشاركانه نزواته الجنسية، ويقومان بالتقاط صور لهم مع فتياتهم حتى فى الأماكن المغلقة.
فى يناير 2002 كانت هناك أعمال شغب مدمرة، والناشطون قد أصبحوا كُثرا، وبدأت حماس فى تقديم الجيل الثانى والثالث فى عناصرها العسكرية والسياسية أيضا، وفى ليلة من ليالى غزة، وبعد أن قدم أكرم لتيرى قائمة بالمراجع التى طلبها وبمعلومات عن مبحث خاص فى الدراسة التى يكتبها تيرى عن العوامل النفسية المصاحبة لمن يقومون بتفجير أنفسهم من أبناء غزة فى عمليات ضد الإسرائيليين... طلب تيرى أن يقوم أكرم بكتابة تقرير يحلل فيه ويشرح بالأسماء كيف تبدأ التجمعات قبيل بدء الانتفاضة اليومية فى شوارع غزة، ساور الشك أكرم عند تأكيد تيرى على ذكر أسماء العناصر التى تقوم بهذه الأعمال، لكنه كان فى احتياج شديد للمال كما أن تيرى قدم له بعض الصور الفاضحة التى تصور أكرم مع فتيات الهوى فى تل أبيب.. كان أكرم يدرك الخطأ الفاضح الذى وقع فيه والأثر الذى ستحدثه هذه الصور لو ظهرت أمام زملائه فى الأزهر الشريف ذلك المكان الذى له رهبته وإجلاله..

لم يجد أكرم بديلا عن تنفيذ ما طُلب منه، وفى تصاعد تدريجى للطلبات التى كان على أكرم تنفيذها كان طلب ديفيد الذى كان يناديه أكرم بـ "أبو محمد".. هذ المرة الطلب المباشر وبحضور رجل آخر من طرف ديفيد يدعى " أبو إيهاب" وهو معرفة معلومات عن القيادى فى حماس "صلاح شحادة" عن منزله وأفراد أسرته، متى يخرج ومتى يعود والسيارات التى يستقلها بأرقام لوحاتها وتفاصيل أخرى.. وفى لحظة المواجهة اعترف ديفيد لـ أكرم بأنه هو وأبو إيهاب ضابطان فى الاستخبارات الإسرائيلية، أمام المال والابتزاز بالصور الفاضحة لم يجد أكرم بدلا من الامتثال والتنفيذ..

بعد عدد من التقارير التى قدمها أكرم للضابطين عن صالح شحادة، طُلب من أكرم أن يجلس مع مجموعة الشباب الذين اعتادوا الجلوس أمام المنزل المقابل لمنزل صلاح شحادة، ومراقبة المكان حتى عودة صلاح شحادة ثم الاتصال مباشرة بأبو إيهاب..

كان ذلك فى ليلة 23 يوليو 2002 وكانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية عشرة إلا ربع، بعد عشرين دقيقة من اتصال أكرم بأبو إيهاب لإعلامه بأن صلاح قد دخل للتو منزله، كانت طائرة الـF16 تُسقط قنبلتها القاتلة التى تزن طنا.

انهار المنزل المؤلف من طابقين تماما، وكانت تحته جثت صلاح شحادة وزوجته ليلى صفيرة وابنته إيمان، وأحد مساعديه وهو زاهر نصار بالإضافة إلى انهيار المنزل المجاور على من فيه..

كان الركام ممزوجا بالدماء والأشلاء، ولأن المنطقة كانت مزدحمة بالسكان فقد كان الضحايا أكثر بكثير، حيث استقبلت مستشفى الشفاء بغزة ستة عشر قتيلا من بينهم تسعة أطفال ورضيعان وأكثر من مائة وخمسين مصابا.

إسرائيل تعرضت لمأزق دبلوماسى شديد مع كندا للمرة الثانية بعد المرة الأولى التى قطعت فيها إسرائيل وعدا بعدم انتحال شخصية مواطنين كنديين، ذلك قبل 5 سنوات حينما استدعت كندا سفيرها بعد إلقاء القبض على عدد من عملاء الموساد فى العاصمة الأردنية عمان حيث تم إحباط محاولة لاغتيالهم خالد مشعل هناك...

أمريكا أدانت هذه العملية الاغتيالية ووصفتها بالظالمة والقاسية، لأنها كانت فى مربع ملىء بالسكان، بينما علق رئيس الوزراء "آرييل شارون" فى الجلسة الصباحية لمجلسه قائلا "إن هذه العملية إحدى أكبر النجاحات التى حققناها ضد الإرهاب"..

دموع أكرم الزطمة لم توجع ضميره الذى أفاق فى أحد السجون التابعة للسلطة الفلسطينية فى غزة..

العديد من عمليات الاغتيال لعناصر من فتح وحماس تمت بهذه الطريقة وطرق أخرى قذرة، كان العنصر الأساسى فى نجاحها هم الجواسيس..

الآليات تختلف وتتطور فى استدراجهم وتجنيدهم، من أهمها الرسائل الإلكترونية العشوائية التى تدعو إلى الجهاد و التضحية والتى لا توصل ضحاياه فى النهاية إلا للقتل بصاروخ من الأباتشى وهم فى طريقهم لتنفيذ عملية عسكرية مُصورة من قبل من القوات الإسرائيلية.

مؤخرا وبعد انتهاء الحرب على غزة، كانت الثلاث ساعات اليومية التى قررت إسرائيل وقف عملياتها فيها أيام الحرب لأسباب إنسانية أحد الطلاسم التى تحتاج إلى فكها..

أيضا تلك الصواريخ البدائية التى كانت تطلقها عناصر تدعى أنها من حماس فور إعلان إسرائيل لوقف النار من طرف واحد، لتظهر حماس أمام العالم والرأى العام العربى بأنها هى التى تعطى الذريعة لإسرائيل لمواصلة هذه الحرب، فى وقت أن حماس لم تكن فى موقف يسمح لها بتاكيد أنها مخترقة من أجهزة الأمن الإسرائيلية على رأسها الشين بيت على الأقل لتحافظ على تماسك الجبهة الداخلية لها.

وبنظرة عامة، فأربعة عقود من الاحتلال لا تحتاج إلى الشك فى أنها وفرت للأجهزة الأمنية الإسرائيلية البيئة المواتية، لتجنيد عملاء فلسطينيين واختراق جبهات وحركات النضال الوطنى الفلسطينى وعلى رأسها حماس وآلياتها فى ذلك كثيرة ومتنوعة من العلاج إلى المال إلى العمل إلى التعليم إلى الاعتقال غير المبرر..

قصص وملابسات عمليات الاغتيال التى استهدفت كلا من الشيخ ياسين والرنتيسى وجمال عبد الرازق ومن قبلهم ياسر النمروطى وعماد عقل فى أوائل التسعينيات، تؤكد بأن السجون الإسرائيلية كانت البيئة الخصبة لعمليات الكنترول، ثم التجنيد لهؤلاء الجواسيس وتدريبهم على أحدث وسائل التجسس والاتصال، خاصة الإلكترونية المشفرة وكيفية ضغط الملفات والوصول إلى كلمة السر للنفاذ إلى الشبكات العامة.

ومع أن حماس قد لجأت للإعدام العلنى لمن تثبت عليه تهمة التجسس إلا أنها لم تنجح فى الحد من هذه الظاهرة حيث يقدر عدد الجواسيس والعملاء داخل مناطق الحكم الذاتى وحدها حوالى العشرين ألف.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة