فى طبعة ثانية صدرت رواية "مدينة اللذة" للروائى "عزت القمحاوى" عن دار العين للنشر هذا العام، بعد صدورها عن سلسلة أصوات أدبية عام 1997، ونشرها مسلسلة فى جريدة أخبار الأدب، الرواية وما أثارته من جدل نقدى واسع عند صدورها لأول مرة، لم تزل أصداؤه تلقى بظلالها على الساحة الأدبية.
عزت القمحاوى صدرت له من قبل رواية "الحارس" و"غرفة ترى النيل" و"كتاب الأيك" ومجموعة قصصية بعنوان "حكايات التراب والطين"، عن "مدينة اللذة" كان لنا هذا الحوار مع صاحب المدينة الأسطورية.
قارئ مدينتك يشعر أنه يشاهد فيلماً من أفلام السندباد، أو يقرأ حكاية فى ألف ليلة وليلة، هل قصدت أن تجعلها خيالية تماماً أم أن بها إشارات إلى الواقع؟
لا يوجد إبداع منطلق من الخيال فقط، حتى حكايات السندباد فيها أشواق الواقع ورغبة الانعتاق، ألف ليلة عمل خيالى فذ ألهم الإنسانية كلها، لكن يمكنك قراءته سياسياً، وتشعر أن فيه حالة من حالات الانتقام الشعبى من الحاكم، زوجة أمير تضاجع الخدم أو العبيد، مغامرات الخليفة أو الثرى فى الحارات المظلمة أو السراديب، فكرة الفقير بالعكس، تجد عنده الشوق للجنس الكثير والولائم الكثيرة، وهو حلم الجائع، مدينة اللذة أو أى عمل يستطيع أن يكون معلقاً فى الفراغ، لكى يكون الفن فناً لابد من الالتفاف، فلا يستطيع الكاتب أن يخون رسالته الفنية ويقول ما كنت أقصده، كنت سعيداً بعجز المتطرفين عن مهاجمة الرواية، لأننى دائماً كنت أشك فى القيمة الفنية للكتاب الذى يهاجمونه بسهوله، فالعمل الإبداعى لا ينبغى أن يحمل فكرة واحدة، فإذا ما وجد المتطرفون مدخلاً لمهاجمة عمل أدبى ما، فهذا يعنى أنه يسير فى طريق مستقيم "كالأتوستراد"، فى العمل الإبداعى لا يجب أن تصل الفكرة بطريقة واحدة لكل القراء، أى أن العمل الإبداعى ينبغى أن يمشى فى طرق ملتفّة لا تعرضه للتصادم عندما يسير فى "الأوتوستراد"
هل يعنى هذا أن ابتعادك عن الواقع رغبة منك فى كسب حرية أكثر والأبتعاد عن الأيدولوجيات فى الإبداع؟
هذا الجدل يقودنا لفكرة أحب أن أناقشها معك، وهى فكرة الأيدولوجية فى الإبداع، فكاتب بلا أيدولوجية هو كاتب عبثى، والكاتب كائن سياسى من الصعب جداً أن تفرغه من أيدولوجياته، حتى لو توفرت له الحرية، مثلاً الكاتب فى فرنسا أو فى أى بلد حر أيضاً يسير فى الطرق الالتفافية، لأن هذا هو طبع الأدب، لبس الأقنعة وهو الدوران وقول الأشياء بأقل درجة من المباشرة، وهذا لا نسميه ابتعاداً عن الأيدولوجيات، بل نسميه إخفاء أيدولوجيات.
لماذا لا تحدد الأماكن فى مدينة اللذة وكذلك فى الحارس؟ هل أسطورية المكان أيضاً إخفاء للأيدولوجيات؟
نفس الهدف طبعاً، فالأسطورة لها وظيفة وهى تخفيف ثقل الواقع، ثانياً نفس فكرة الالتفاف الذى يؤدى لتوسيع المعنى، أى الالتفاف فى الحديث عن الأماكن والحديث عن الأشخاص، فالعمل الإبداعى يختلف عن نشرة الأخبار، قد تقرأ لشخص ما وتتعرفه من كتابته، ولكن لا يمكنك أن تشعر بهذا فى كتابتى، فإخفاء الأماكن والأشخاص يبتعد بالأدب أن يكون هجائية شخصية، ليس هناك لى ككاتب ثأر مع أحد أو مع مكان، وإنما أتحدث عن سياقات وأنساق ومصائر تتقاطع مع مصائر القارئ، فى مدينة اللذة ظلال لمكان عربى، وإنما لا أحب أن يكون لى ثأر مع هذا المكان، فى هذه الحالة سأضحى بالأمثولة الإنسانية الواسعة التى تؤدى لتوسيع القراءة فى مدينة اللذة.
إذن الهدف هو استثمار كل التفسيرات على كل الجوانب والخروج بأفضل الرؤى من القارئ؟
لو كل كاتب يرتب أولويات كتاباته، فأنا أولوياتى هى متعة اللعب، وترك حصة القارئ، لأن القراءة عملية مشاركة تماماً مثلها مثل علاقة الحب، فالنص المستغنى عن قارئه يطرده تماماً خارجه، فهو أشبه ما يكون بالفارق بين علاقة الحب بين اثنين وذلك الذى يزاول العادة السرية، فالأخير هو النص الطارد لقارئه.
عن ماذا تبحث فى كتاباتك؟
كتاب بعد آخر أحاول البحث عن السعادة من خلال احتفاء الإنسان بحواسه والتنبيه على قصر العمر، وأن الحياة تستحق أن تعاش، فمدينة اللذة لا يوجد فيها شخصيات، بل فيها رائحة تغريبة المصريين الذين يقضون عمرهم فى الاكتناز، قلت ذلك فى رواية "الحارس" عندما أشرت إلى أن الحياة الفردية أغلى من أن تنذر لخدمة أى مؤسسة ضاغطة، وفى "غرفة ترى النيل" قدمت بطلاً يحتضر وتبقى له ثلاثة أيام فى الحياة، واستطاع فى هذه الأيام القليلة أن يجعلها أسعد أيام حياته، لقد هاتفنى طالب فى كلية الطب، وأخبرنى أننى قد أنقذت حياته بهذه الرواية، حينما قرأها كان مكتئباً وعلى وشك الانتحار، وبعد انتهائه من غرفة ترى النيل رجع عن ذلك وأيقن أن لحياته ثمناً غالياً.
تستخدم أساطير معروفة مثل قصة سليمان، وتعيد تضفيرها فى صورة عراف يأكل النمل عصاه، وتبدل أجساد أهل النار، حيث يتبدل أجساد أهل مدينة اللذة من كثرة اللذة، وسطوة مكة على أبرهة مثل سطوة المدينة على غزاتها؟
يضحك ويقول: أولاً هذه قراءتك أنت، بالتأكيد قد يقرأها آخرون على أنها أشياء أخرى.
هذا التضفير والاتكاء على الأسطورة، هل ترى أن الأسطورة لم تزل منبعاً يستمد منه الإبداع نصوصه أم أن الواقعية أخذت مكانها؟
بالتأكيد طبعاً صالحة، أولا لم يعد ينظر إلى الأسطورة بمعيار البحث العلمى النظرة المتعالية القديمة، أعيد إليها الاعتبار على يد كتاب كبار مثل "مرسيلياد" فهى نسق معرفى كامل، ثانيا الفيزياء تقترب الآن من الميتافيزيقا، أى عندما تقرأ عن الانفجار الكبير والأقمار التابعة للكواكب، وهى كلها فرضيات تقترب تماماً، فكأن الدائرة التى كنا نتصور، أسفلها الأسطورة باعتبارها التفكير الخرافى وأعلاه العلم، هذه الدائرة ضاقت ويتطابقان، الفمتو ثانية، وفكرة الأجرام والمجرات مسألة تقترب من الأسطورة، نحن لم نتأكد من فرضية الانفجار الكبير، ولم نتأكد من فرضية ملايين المجرات، وكل مجرة بها آلاف الشموس، نحن نعيش فى الأرض، الأسطورة أصبحت حية حتى فى العلم، ثالثاًَ الرواية توازى الحياة ولا تتطابق معها، وهى ابنة كتب كما هى ابنة حياة، والكتابة العظيمة بنت القراءة العظيمة، الحياة بليدة وبطيئة، والفن ينتمى إلى نفسه، أكثر مما ينتمى إلى الحياة، فهذا التوالد للأسطورة مشروع جداً ويخفف ثقل الحياة.
لماذا جاءت الشخصيات كأطياف فهى ليست بطل الرواية، بطل الرواية هى المدينة؟
الشخصيات ليست أطيافاً لكنها مسحوقة ومأزومة من وطأة المكان، فالمكان هو البطل كما تكتب فيلماً وتجعل بطله كلباً، فالبطل هنا هو المدينة لبيان قسوتها وسحقها لسكانها.
بعض الأسماء عجائبية وبها غرابة مثل "الظعبيد" و" المحلمة"؟
الكاتب لا يعيش عالم من سبقوه فى اللغة، وأنا شديد الأسف لأن النقد يكتب عن روايات كثيرة جيدة أو غير جيدة ولا يتعرضون لموضوع اللغة، فهى هيكل الرواية، وعلى الكاتب أن يتحدث لغته، فالمحلمة هو مكان الأحلام للأميرة التى تتطلع للحب، وهنا يفكر الكهنة وسدنة العروش فى الألعاب التلفيقية لاستمرار نظام ما، وترميم الجروح على وساخها، أما "الظعبيد" فهو تركيب من ظل العبد السيد الذى يصبح ظلاً أحياناً ويصبح عبداً أحياناً أخرى لأسياد المدينة الحقيقيين.