مرت عشرة أيام على النطق بحكم المحكمة الإدارية العليا الخاص بإلغاء ترخيص مجلة إبداع، لأنها نشرت قصيدة للشاعر حلمى سالم، وصفتها بأنها مسيئة للذات العليا، ندوات عقدت، بيانات صدرت، البعض صفق للقرار باعتباره انتقاماً من العلمانيين الأشرار، والبعض وصف القرار بأنه عودة للعصور الوسطى ولثقافة الظلام، وما بين هذا وذاك تاهت الحقوق، وضاعت كرامة الكثيرين، وتشتت المتابعون، ومازالت المعارك منصوبة حاليا وبنجاح ساحق بين التيارات الفكرية المتنازعة.
بصراحة مؤلمة بدا شيوخ الحسبة ومحاميها أذكى من المبدعين والمثقفين؛ ذلك لأنهم يتقنون اللعبة التى يروجون بها لأنفسهم ولأغراضهم الإعلامية والمادية، والوصفة سهلة، تتلخص فى اصطياد حوار أو تصريح صحفى، أو مقال يكتبه أحد المستنيرين، أو اصطياد أحد الأعمال الإبداعية، قصة، رواية، قصيدة، لا فرق، وبعد الاصطياد تبدأ عملية التفتيش، التى يعقبها بلاغ إلى النائب العام أو مجمع البحوث، أو النيابة العامة، بحجة أن الكاتب أو الشاعر أو الروائى يسىء إلى الذات الإلهية أو أحد الأنبياء، أو الصحابة، أو التابعين، أو تابعى التابعين، ومؤخراً، أضيف إلى هذه القائمة أحد القديسين أو الرهبان، أو أحد الشيوخ الأجلاء، وبعدها يتم محاسبة المبدع على إبداعه، طبقا لقانون الحسبة إن كان القول قولاً عاماً لا يختص بأحد بعينه، وإن كان تورط وضرب مثالا بأحد الشيوخ الأحياء، فالحكم إذن يكون بناء على توجيه تهمة السب والقذف، ويصدر حكم المحكمة وتخرس الألسنة.
من الجولة الأولى يخسر المثقفون قضيتهم أمام خصومهم وأمام الرأى العام، ولا يتبقى لهم إلا النواح فى الجرائد، والفضائيات، وبعدها يأتى البكاء على الحرية والليبرالية والحق فى التعبير والحق فى الاختلاف، وبالطبع يظل هذا البكاء دمعا على ورق، بعد أن يتهيأ الرأى العام لاستقبال المزيد من التشدد والمزيد من القمع ضد المثقفين، وهنا يلح سؤال مهم: هل المثقفون وحدهم هم الذين يخطئون؟ وهل خصومهم فعلاً شرفاء نبلاء لا يبغون إلا المحافظة على الوطنية المصرية والمجتمع المصرى والأسرة المصرية؟ وهل محامو الحسبة وشيوخها معصومون من الخطأ؟
الواقع لا يأتى بإجابة واضحة تحسم القضية لصالح شيوخ الحسبة ومحاميها، الذين يخطئون كثيراً فى حق الثقافة والمثقفين أنفسهم، وهذا ما أوضحته قضية "قصيدة شرفة ليلى مراد" التى نشرها حلمى سالم بمجلة إبداع، وعلى إثرها جاء حكم المحكمة بإلغاء ترخيصها، وكان من المفترض أن يتم توجيه تهمة السب والقذف لعدة هيئات وأشخاص، مجمع البحوث الإسلامية بكامل هيئته سب الشاعر حلمى سالم فى بيان رسمى، متهماً إياه بأنه "ملحد وكافر وزنديق"، وكان من المفترض ألا يسكت الشاعر حلمى سالم على هذه الإهانة، التى تنال من سمعته، وبالتالى من سمعة كل المثقفين والشعراء، لكنه سكت وفوت على نفسه وعلى المثقفين، فرصة أن يتهم كل من وقع على هذا البيان بالسب والقذف، أما الشيخ يوسف البدرى الذى استجابت المحكمة لطلبه بسحب جائزة التفوق من "سالم" فقد اتهمه بأنه "مسطول" و"مخمور" و"ملحد"، وكان من الممكن وقتها أن يقاضى سالم "البدرى" بسبب اتهامه بهذه التهم جزافاً، لكنه سكت ولم يقاضيه، وضاع حقه فى المطالبة بصيانة سمعته والحفاظ على تاريخه الإبداعى.
آخر الفرص التى فوتها سالم على نفسه فى مقاضاة من يسبونه هى اتهام المحامى سمير صبرى بأنه عميل مأجور من الخارج يتقاضى أموالاً من الذين يريدون تخريب الوطن، وأنه "بوق" يردد دعاوى الفتنة والتخريب، كل هذه السباب التى يعاقب عليها القانون، جاءت فى عرضة الدعوى التى كتبها هذا المحامى، ونشرتها جريدة القاهرة فى عددها الأخير، ومرت أيام على نشر هذه العريضة ولم يفعل اتحاد الكتاب الموكل بالدفاع عن أعضائه شيئاً، ولم تفعل نقابة الصحفيين شيئاً، والأمر أن حلمى سلم نفسه لم يفعل شيئا، وهكذا ينسحب المثقفون من معاركهم، ويتركون الساحة الفكرية لخصومهم المنتصرين، على الرغم من أن فرص هزيمتهم كثيرة، وقانونية، شرط أن يتقن المثقفون شروط اللعبة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة