عزيزى أنور الهوارى أثناء محاولتنا لفت الأنظار لما يحدث للصحافة الأمريكية من انهيار، تصادف أن شن الزميل العزيز أنور الهوارى هجوماً عنيفاً على ما وصفه بالإعلام البديل فى مصر.
ولأن ما كتبه يفتح باباً شيقاً لمحاولة فهم ما يحدث الآن ليس فقط على مستوى الإعلام، بل أيضاً على مستويات أخرى قد تكون أكثر أهمية وأكثر إلحاحاً، فإننى أحييه، مثلما كنت أحييه دائماً، على قولة حق تغار على الوطن، وأرجو منه فى الوقت نفسه أن يتسع صدره للاختلاف فى الرأى دون أن يطال ذلك من مودتنا واحترامنا المتبادل.
أولاً، تهنئة صادقة إلى الزميل العزيز أنور الهوارى على توليه موقع رئاسة تحرير الأهرام الاقتصادى، وهو أهل له ولأكثر منه، وهو واحد من زملاء الصف والجيل، أيام كنا طلبة حالمين فى كلية الإعلام، الذين يصعب اليوم تخيل المشهد الإعلامى المصرى دونهم: ياسر رزق وعمرو أديب ومجدى الجلاد وعبدالله كمال وحمدى رزق وإبراهيم عيسى وأحمد محمود وعبدالحكيم الأسوانى (وجميلة إسماعيل) وغيرهم.
ثانياً، لست مع هؤلاء الذين ربطوا بين توقيت نشر مقال الزميل العزيز، من ناحية، والإعلان عن قرار تعيينه الجديد، من ناحية أخرى، إيحاءً منهم بأنه مكافأة له على تغيير جلده وبأنه عندما خاصم فجر.
ذلك أن ذاكرتى تحتفظ منذ الثمانينيات بصورة لقروى أصيل يخشى الله عن علم وعن أخلاق ويتمتع فى الوقت نفسه بروح من الدعابة اللاذعة الثاقبة ويقول للأعور يا أعور دون نفاق. هكذا كانت صورة أنور فى مدرج الجامعة وفى أروقة الحرم وفى مطعم المدينة الجامعية. وعندما عدت إلى مصر بعد غياب 16 عاماً وجدت كثيرين وقد ارتدوا صوراً جديدة، بعضها طيب وبعضها غير ذلك، بينما أنور هو أنور. حتى لهجته القروية الأصيلة ونبرة صوته التى تظنها لأول وهلة خناقة فى أوتوبيس عام، وجدتها كما هى.
ثالثاً، أرجو ممن لم تُتح له فرصة الاطلاع على مقال الزميل أنور أن يلقى نظرة عليه من خلال هذا الرابط:
http://www.almesryoon.com/ShowDetails.asp?NewID=61490Page=7
حتى يتسنى لنا متابعة المقال.
رابعاً، يبدأ اختلافى معه من مسمى «الإعلام البديل»؛ إذ إن هذا المصطلح يفترض أن ما ينبغى أن نسميه «التعددية الإعلامية» يعمد بالضرورة إلى مسح الآخر من الوجود باحتلال موقعه وهو ما ليس صحيحا فى معظم الحالات ولا صحياً فى أى من الحالات. وحتى إن كان صحيحاً، فما المانع فى أن تحاول صحيفة «بديلة» أن تختطف قراء الأهرام مثلاً إذا كان سبيلها إلى ذلك تقديم خدمة صحفية أفضل؟ إن الدولة (التى عاد أنور الآن جزءًا من نظامها الإعلامى) هى التى دفعت بنا من زمن بعيد فى اتجاه الانفتاح قبل أن تكثف سرعة الدفع فى اتجاه قوى السوق، فلا يحق لها بعد ذلك، كما يقول المثل الإنجليزى، أن تحصل على تورتة عيد ميلادها وتأكلها وحدها فى نفس الوقت. وبغض النظر عن رأينا فى هذا الاتجاه فإن من الصعب أن يختلف اثنان حول معقولية مبدأ المنافسة الشريفة التى يمكن أن نستفيد منها جميعاً، والتى استفاد منها دون شك واقع الإعلام فى مصر حتى الآن رغم عدم اكتمال التجربة بعد.
خامساً، أشارك الزميل أنور قلقه من سيطرة رأس المال الخاص على وسائل الإعلام، ولهذا حاولنا فى مقالينا السابقين هنا نقل صورة لما يحدث الآن للصحافة الأمريكية من انهيار لعلنا نتجنب أسبابه فى صحافتنا «البديلة» الناشئة. غير أن من الشطط أن نفترض أن ثمة مؤامرة كُتبت «بالحبر السرى»، كما يقول، يقف وراءها من يريد »تفكيك ركائز النظام الوطنى فى مصر وإعادة تركيبه على ركائز جديدة«. عندما نفترض هذا نكون قد فتحنا باب المزايدة على المسئولين عن أمننا القومى الذين يعلمون أكثر من أى صحفى من يقف وراء تمويل أى صحيفة ولماذا. كما نكون قد افترضنا أننا جميعاً، صحفيين وقراءً، مفعول بنا لا نستطيع أن نميز ولا نستطيع أن نرى ولا نستطيع أن نتخذ قراراً نؤمن به، مثلما استطاع هو أن يتخذ قراراً يؤمن به.
سادساً، مفردات القاموس الذى يستخدمه الزميل أنور فى مقاله لوصف ما يسميه الإعلام البديل، من مثل «طوفان يزحف»، «أموال سقطت بطرق غامضة»، «الحبر السرى»، «تحت الأرض«، «الغموض المقصود»، «النوايا المبيتة»، «الخطط المجهزة»، «الانتهازية الرخيصة»، «الاستراتيجية الكونية»، «رأس الحربة الناعمة»، كلها جعلتنى أظن لأول وهلة أنه يتحدث عن بروتوكولات حكماء صهيون أو عن الماسونية أو عن كليهما فى آنٍ معاً.
وواقع الأمر أن أصحاب هذا «الإعلام البديل» كلهم تقريباً (ومعظمهم من رجال الأعمال المعروفين) على مسافة قريبة من الدوائر الرسمية وما يجمعهم معاً أكثر مما يفرقهم. نعم، هناك كما هو واضح مناوشات شخصية ومباريات جانبية، لكنهم جميعاً يعلمون أين تبدأ خطوط منطقة الجزاء وأين تنتهى وأين يقع خط المنتصف. بل إننى إذا اضطررت إلى المفاضلة بين استنتاجين لا ثالث لهما فسأجدنى أرجح كفة المراهقة الإعلامية المتوقعة دائماً فى أى تجربة جديدة على كفة المؤامرة الكونية الرامية إلى تعكير صفو النجاح الساحق لجريدة الأهرام أمام مثيلاتها الخليجيات.
سابعاً: يتحدث الزميل أنور عن «العمالة المصرية» فى «الإعلام البديل» بشىء مما يسميه الإنجليز Patronization ولأننى أعلم معدنه الأصيل فأنا أربأ به عن افتراض أنه وحده يحتكر الحقيقة ويحتكر معها وثيقة شرف المهنة وطريقة حب الوطن وأن الآخرين مجرد «أبرياء يبحثون عن فرصة عمل مشروعة أو لقمة عيش نظيفة» وأنهم «قد لا يدركون خطورة التوجهات التى يفرضها التمويل» الذى يعمد إلى «تدريبهم وتسفيرهم إلى عواصم التمويل». وواقع الأمر ألا علاقة بالضرورة لهذا بنوع الإعلام؛ فالفاسد يبقى فاسداً سواء عمل تحت مظلة الدولة أو تحت مظلة رأس المال، و«البرىء» كذلك.
وحين ندرك أنه «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» ندرك أيضاً أنه ليس مطلوباً من الصحفى قبل أن يبدأ عمله كل يوم أن يطلب من رئيسه شهادة حسن سير وسلوك مختومة من منافسيه، وأن ما يهمنا فى ذلك كله هو قدرة الصحفى على الحكم على ما يُسند إليه من مهام، ولا أعتقد أن عدد هؤلاء الذين هم على استعداد لإغلاق أعينهم من أجل لقمة العيش أكبر بأى حال من عدد هؤلاء الشرفاء الذين يفضلون أن يناموا جوعى من أجل مبدأ، وأنور الهوارى بكل تأكيد ينتمى إلى الشرفاء.
أشاركه القلق على مستقبل الصحافة فى مصر من الناحية المهنية، لكننى أختار أن أتفاءل بمساحة الحرية ولا أريد لبلادى أن تُحرم منها إلى أن يثبت العكس. لا أدرى تماماً من أين يأتى تمويل هذه الصحيفة مثلاً، ولا يهمنى كثيراً أن أعرف. ما يهمنى هو أن أكتب ما أريد عما أريد فى الوقت الذى أريده بما يمليه علىّ ضميرى المهنى والأخلاقى.. هذا عهدى تجاه قرائى وهذه طريقتى فى حب الوطن.. حين يُطلب منى تغيير كلمة واحدة سأتوقف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة