هذه الأيام، يُلِحُّ علىَّ كثيرًا صديقُنا الروائىّ يوسف أبو ريّة. الذى رحلَ قبل ثلاثة أشهر. كأنما رسالةٌ يبثَّها إلىّ، صاحبُ »عطش الصبَّار»، و«الضحَى العالى»، و«تلُّ الهوَى»، و«ليلةُ عُرس»، وغيرها من الروايات، وقصصِ الأطفال التى حصدَتْ حبَّ القراء، ورسّختْ اسمَ كاتبِها فى متْنِ المشهد السردىّ العربى، وفى متنِ قلوبِنا. ظلَّ، قبل رحيله، وعلى مدى شهور طوال، يُساجلُ المرضَ ويناوئه ويشاكسُه، من دون أن يُعلِنَ لأحد أن كبدَه آخذٌ فى التحلّل والضُّمور. ربما كبرياءُ الفنّان منعته من القول، ربما رِهانُه على أن الموتَ الذى يخطفُ أحباءَنا لا يزالُ بعيدًا عنّا.
إذْ الموتُ يكيدُ لنا فيخطفُ من نُحبُّ، لكنْ، ماذا سيفعلُ بنا، طالما أن اختطافَه لنا نحن لن يزعجنا، بل سيزعجُ آخرين ممن أحبّونا؟! لم يعلنْ لنا، نحن أصدقاءه، عن آلامِه النبيلة إلاَّ قبل الاحتضار بأيام. أبَى إلا أن تظلَّ ضحكتُه الصاخبةُ شاسعةً فى سماء ذاكراتنا، حتى أننا، الآن، لا نستحضرُه أبدًا مريضًا واهِنًا، بل مرِحًا ضحّاكًا ساخرًا.
قبل أيام من طيرانه إلى حيث يطيرون، بثَّ بعضَ أوجاعِه لأحدِ أخلَص خُلَصائه، هو الأديب الكبير سعيد الكفراوى. فتفجّرتِ المقالاتُ من أقلامنا نناشدُ الدولةَ، الساكنةَ، والوزراءَ، الخاملين، ليحرِّكوا ساكنًا. دخل الأديبُ محمد سلماوى، رئيسُ اتحاد كتّاب مصر، والأمين العام لاتحاد الكتّاب العرب، سِجالاً عنيفًا، ورفيعًا، مع وزارة المالية لترفعَ يدَها عن منحةِ حاكم الشارقة لعلاج أدباء مصر، الفقراءِ إلى الله، الأغنياءِ بمواهبهم وأقلامهم. لكن الأموالَ لم يُفَكُّ أسْرُها إلا بعدما تحرّرَ يوسف من إسار الدنيا، ليطيرَ خفيفًا من الدَّين.
والآن، وبعد شهورٍ على الفقد، أسألُ نفسى حين يزورُنى طيفُ يوسف: هل يجوزُ أن أقولَ، على نحو يخلو من أيّة إنسانية، إننى فَرِحةٌ أنه قد مات فى ذلك التوقيتِ النبيل عينِه، وبتلك الكيفيةِ الرفيعةِ عينِها؟! يتطلّبُ الأمرُ بعضَ »ترويضِ النَّمِرةِ« داخل نفسى، اقتباسًا من شكسبير.
يتطلبُ الأمرُ أن أحرِّرَ عقلى من حبّى ليوسف، وأحرِّرَ عنقى من صداقتى له، وأحرِّر قلبى من حَزَنى على فقده، وأحرِّرَ روحى من شعورى بالمرارة عليه وعلينا وعلى فكرة الثقافة بمجملها، فى مجتمع غير قارئ لا يحفلُ كثيرًا بالثقافة ولا بالمثقفين. حينما أتحرَّرُ من كلِّ ما سبق، سأنظرُ إلى الأمر على نحو أكثر تجريدًا؛ فأكتشفُ أن يوسف قد اختارَ أن يطيرَ خفيفًا مُتحرِّرًا من عبء الدَّين وتبِعة مدِّ اليد.
حتى ولو كان مدُّ اليد مطالَبةً بحق. فأنا من الذاهبين إلى أن الحقَّ أحقُّ أن يأتى طواعيةً، ذاك أن «الحقَّ» كيانٌ مستقلٌ لا يؤخَذُ ولا يُمنَحُ بل حرىٌّ هو بأن يأتى صاحبَه بشرفٍ دون أن يضطرَ، أو حتى يفكرَ، صاحبُ هذا الحقِّ أن يطالبَ به. لم تَرُقْ لى مرّةً كلمة «ما ضاعَ حقٌّ وراءَه مُطالِب». لماذا أصلاً يضيعُ الحقُّ؟! هو مثل خلايانا ودمائنا وأعصابنا، جزءٌ منا لا يصحُّ أن يفارقنا، لكى نطالبَ به.
ومع هذا فقد اختار المبدعُ الكبير، شأن كلِّ مبدعٍ كبير، أن يعلوَ فوق الحقِّ، ما دام الحقُّ قد اختبأ، أو خُبِئَ بمعرفة خبيث. أقولُ إننى فرحةٌ بطيران يوسف على مستويين. الأول أنه تحرر من تبعة مَكرُمةٍ من دولةٍ أو وزارة، وهى حقّه الأصيل لدى هذه الدولة وتلك الوزارة: أولا كمواطنٍ مصرىّ، وثانيًا كمبدع كبير.
وكذا تحرَّرَ من مكرمةِ ثريٍّ عربى يشعر بمعنى وقيمة كلمة »مبدع«، فى حين حكومةٌ بأسرها لم تشعر بذلك، وهو بعض حقوقنا المهدرَة لديها. وأما المستوى الثانى، لفرحى، اللاإنسانى والجاحد، بِموت أبو ريّة، شابًّا فى أوج عطائه، فهو أنه قد تحوَّلَ، بموته الخاطف، إلى أيقونةٍ أمل، ومسيحٍ يَفتدِى زملاءه الذين سيرقدون رقدته على فراش المرض. وهذا ما كان، فقد تحرك ساكنُ هذا الذى لا يتحرك من أجهزتنا الكسول، وانتبهتْ إلى قتلها العمْد عقولَها ومبدعيها وقاماتها الفكرية.
سواءً بإهمالها إياهم وبَخْسِها حقَّهم؛ فيلوذون بالهرب إلى حيث بلادٍ تُقدِّرهم كما أحمد زويل، ومجدى يعقوب، وغيرهما من مهاجرينا، أو بإهمالها لهم مرضى راقدين على فُرِش الموت؛ فيموتون تحت مرآها ومسمعها، حتى إنْ همَّ هامٌّ من دولة أخرى لنُصرتهم، حجبت عطيتَه عنهم ليموتوا فى مشافى التأمين الصحىّ بفُرشِها الخَشنة وصدئِها الضاربِ فى النفوس والعِتاد. اختار يوسف أبو رية أن يموتَ مِيتةَ كلِّ مواطنٍ مصريّ بسيط أهدرتْ حكومتُه حقَّه لديها، مثله مثل المئات يموتون كلَّ يوم، مثله مثل أطفالٍ مصريين يأكلهم السرطانُ بماء ملوَّثٍ وطعامٍ فاسدٍ وتطعيماتٍ منتهيةِ الصلاحية.
مات يوسف بينما زوجته الطبيبة «فريدة» تجوبُ بقميصه الملوث بدم الذئب على المسئولين تناشدهم أن ينقذوا زوجها، وأصدقاؤها يكتبون المقالات تلو المقالات: أنْ أنقذوا يوسف الذى صَدَقَكم رواياتٍ ومقالاتٍ ونضالاً. لكن لسانَ حال الحكومة لم يقل سوى كلمة رادّة حاسمة: اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلو لكم وجه أبيكم. شكرا لك يا عزيزى يوسف أن اخترتَ الميتةَ الصحيحة الوحيدةَ، غيرَ مَدين لأحدٍ، ودائنًا للجميع.
يا يوسف، كما قد تعلم، تقيمُ لجنةُ القصَّة بالمجلس الأعلى للثقافة اليوم الثلاثاء 14 أبريل تأبينًا لك، ننتظرك بيننا هناك، فلا تتخلّفْ عن الحضور.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة