المكان هو قهوة البورصة فى حدود الحادية عشر والنصف مساء. جلست أنا واثنين من المجانين أمثالى، واستغرقنا فى حديث لا أتذكر حقا عن أى شيء كان. وإذا بصوتها الصغير خلفى قائلة: والنبى حاجة لله والنبى.
نظرت إليها ببرود للمرة الأولى حيث إنها لم تثر تعاطفى أبدا فى أول وهلة حيث إن منظر المتسولين فى الشوارع أصبح من المناظر المعتادة التى لا تلفت انتباهنا حتى، وحيث إننى أردد دائما أنى لست من أنصار مساعدة المتسولين فكان من المنطقى أن أرد عليها ببرود: ربنا يسهلك ياماما.
ولكنها ألحت: والنبى والنبى والنبى.
لا يهمنى بالطبع أى نبى تقصد بالرغم من الحجاب التى ترتديه وهى ابنة الست سنوات.
ولكنى أكاد أن أقسم أنها هى لا تعرف من هو النبى الذى تستحلفنى به؛ ولكن بالتاكيد ليس هذا هو المهم.
ولكن المهم أنى عندما نظرت إليها نظرة فاحصة أثارت فضولى الذى أود قتله فى يوم من الأيام.
وإذا بى أتحول عن حديثى مع من كانا معى إلى الحديث إليها.
هذا ما أتذكره من حديثى معها.
أنا: اسمك ايه؟
هى: كريمة
أنا: تعرفى عندك كام سنة؟
هى: معرفش بس لسه مدخلتش المدرسة أنا ف حضانة.
سألتها (باستغراب): انتى فى حضانة بجد؟ اسمها ايه ؟( بحاول اعرف هل كاذبة أم لا ) .
هى: اسمها شبر ونص ( لا أعلم هل هناك حضانة بذلك الاسم أم لا ).
أنا: واخواتك بيشتغلوا ايه يا كريمة؟
هى: معنديش اخوات غير منة ودى صغيرة خالص مش بتمشي.
أنا: وباباكى بيشتغل ايه؟
هى: بابا سابنا واتجوز واحدة تانى.
أنا: وماما بتشتغل ايه: ماما تعبانة رجلها واجعاها مش بتمشي.
أنا: انتى هتروحى ازاى الوقت اتاخر.
هى: انا مستنية اكمل العشرة جنيه واركب المترو واروح.
أنا: انتى معاكى كام دلوقتى.
طلعت الفلوس وقعدت تعد فيها.
قالت: 9.15 ( الغريبة بتعد كويس اوى أفضل من أى طفل ف سنها سؤال: هل الشقاء يجبرنا على التعلم ).
أنا: اشمعنى 10 جنيه يا كريمة.
هى: علاج أمى ب 10 جنيه.
أنا: بس أمك يا كريمة مش هتجيب علاج كل يوم.
هى: بتجيبه كل 3 أيام.
أنا: ومين بيدفع فلوس الحضانة؟
هى: بنستلفهم من دكتور جارنا كان يعرف أبويا.
أنا: انتى عارفة بتعملى ايه ولا لأ ؟
هى: اه بشحت.
أنا: الشحاتة حاجة كويسة ولا وحشة؟
هى: دى شغلانة شريفة.
أنا: لا يا كريمة الشغل اللى نذل فيه نفسنا للناس وكمان ناخد فلوس من غير ما نتعب فيها دا مش شغل شريف.
هى: صمت مع نظرة لن أستطيع نسيانها.
أنا: انتى مش بتذلى نفسك.
هى: اه بذل نفسي.
أنا: طيب ما تجربى تشوفى أى شغل.
هى: رحت لمحلات كتير وقالولى انتى لسة صغيرة.
أنا: انتوا بتاكلوا ايه يا كريمة؟
هى : فول وطعمية علطول.
أنا : نفسك تاكلى حاجة تانى.
هى: نفسى اكل شاورمة.
كانت هذا هو ردها الأخير الذى أسقط دموعى رغما عن أنفي. وأخرجت نقودى ناسية كل كلامى واحتجاجى على مساعدة المتسولين. وقلت جملتى الأخيرة إليها: خدى الفلوس دى شيليها و روحى اشترى شاورمة دلوقتى حالا وكليها قبل ما تروحي. هى: لم تنطق بشيء آخر سوى نظرة فرح ارتسمت فى عينيها وذهبت مسرعة فى اتجاه متجر الشاورمة.
تركتنى وجملتها الأخيرة تمزق أحشائي.
لم أفكر هل هذه الطفلة كاذبة فى كل ما قالت أم لا؟
هل هى محترفة فى أمالة قلوب البشر إليها حيث هذا ما تعتمد عليه فى مهنتها الشريفة كما قالت؟
لم أفكر فى شىء سوى أنى أمامى طفلة ضحية بكل المقاييس لألف جان ولن أعدد الجناة.
لم أفكر فى أى شىء سوى أن أمامى إنسان لا يحلم إلا بساندوتش شاورمة.
أنا لا أناقش التسول ، ولا أناقش التشرد، ولا أناقش استهتار أب يستحق الإعدام،
ولا أناقش الطفولة المغتالة، ولا أناقش تدريب طفل على اختلاق القصص والمأسي،
ولا أناقش كارثة أن تصبح أقصى أحلام إنسان قضمة من ساندوتش شاورمة، ولا أناقش المئة مشكلة التى تضمنها مقالى بدون قصد؛ ولكنى كتبت لأنى احتجت لذلك.
أعلم أن موضوعى لن يضيف شيئا جديدا، ولن يحل شيئا قديما ولكن كتبت لأنى أكتب حينما أكون موجوعة .
وهذه الطفلة حقا مازالت وجعانى
كريمة ما زالت واجعانى
