يسرى فودة

واحد «انتهت الحرب» وصلّحه

الجمعة، 10 أبريل 2009 01:04 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان نصيب الصحافة المطبوعة من سوق الإعلانات فى أمريكا عام 1990 حوالى 26 %، منذ ذلك العام، وقبل انتشار الإنترنت بسنوات، هوت هذه النسبة تدريجياً حتى وصلت إلى مجرد حوالى 10 % هذا العام ولا تزال فى انحدار.

بينما تنهار الصحف الأمريكية هذه الأيام واحدة تلو الأخرى، لهذا السبب ولغيره، لا يزال يصدر المزيد من الصحف المصرية رغم مرور عقود على تبنى ما ينبغى أن يخضع فقط لقوى السوق. ما الذى يعنيه هذا الوضع الغريب بالنسبة لهم وبالنسبة لنا وبالنسبة للصحف وبالنسبة لمهنة الصحافة بشكل عام؟

دعنا نتخيل أنك قررت أن تصدر صحيفة أسبوعية جديدة على قد الحال ودعنا نفترض أن لديك شقة معتبرة لا تحتاجها تصلح مقراً لحوالى خمسين صحفياً وموظفاً وأن الجيران وأولاد الحلال سيتبرعون لك بالأثاث وأجهزة الكمبيوتر وغيرها من مستلزمات، دعنا كذلك نفترض أن لديك تصاريح الإصدار، وأن الأستاذ مكرم محمد أحمد كان ينتظر قرارك بفارغ الصبر، وأن وكالة رويترز للأنباء قررت أن تمنحك اشتراكاً مجانياً فى خدمتها لمدة عام لوجه الله، وأن الأستاذ مرسى عطا الله وافق على أن تتولى مؤسسة الأهرام تكاليف الطباعة والتوزيع كاملةً رغم مظاهرات الصحفيين الآخرين «الحاقدين العملاء»، وبعد ذلك، دعنا نتخيل أن فاعل خير قرر أن يمول بسخاء حملة إعلانية تمهيدية ضخمة رفعت توزيع الصحيفة من أول يوم إلى عشرين ألف نسخة، وهو رقم يحلم به أى ناشر فى البداية.

ولأنك لا تريد أن تتحدى قوانين المنافسة فقد قررت أن تبيع النسخة الواحدة بنفس السعر الذى تعود عليه القارئ، وهو 100 قرش لا غير. وبذلك فقد ضمنت أن التوزيع يعود عليك بمبلغ شهرى ثابت وقدره 80 ألف جنيه. تجلس عندئذ مع مدير قسم الشئون المالية فتفاجأ بعد هذا النجاح الساحق بأنه يقول لك إن هذا المبلغ لا يكفى حتى لتغطية مرتبات الصحفيين والموظفين، ناهيك عن التكاليف والمصروفات الأخرى الثابتة وغير الثابتة. لا بد إذن أن ثمة شيئاً خطأ، أليس كذلك.

والواقع أن صناعة الأخبار، فى أى وسيلة إعلام فى أى مكان فى العالم، لا تعود على صاحبها بأى مكسب مادى يمكن أن يفهمه رئيس قسم الشئون المالية، وأقصى ما يمكن أن يطمح إليه المالك هو تقليص خسائره المادية إلى أقصى حد يمكن أن تسمح به الظروف. من إذن يمكنه أن يملأ هذا الفراغ المادى الذى يمكن أن يفهمه رئيس قسم الشئون المالية؟ وما الذى يمكن أن يدعوه إلى ذلك؟ تقليدياً هناك مصدران واضحان: إما الدولة أو المعلن، أو خليط منهما معاً. يختلف هذان المصدران كثيراً من وجهة نظر صناعة الأخبار لكنهما يتفقان فى شىء واحد واضح المعالم: أن كلاً منهما يسعى إلى أن يبيع القارئ شيئاً ما يمكن أن يؤدى إلى التأثير على عقله، سواءٌ كان هذا الشىء فكرة سياسية أو سلعة/خدمة تجارية.

يتحدى المهنيون والليبراليون الصحف التى تعتمد على المصدر الأول (وهى الغالبية فى معظم دول العالم الثالث) أن يكشفوا عن الحجم الحقيقى لتلك الفجوة المادية التى يفهمها رئيس قسم الشئون المالية قبل أن يغطيها المصدر (و هو بالمناسبة أحد المعايير الموضوعية للحكم على مدى نجاح صحيفة ما من الناحية المهنية). لكنّ الأهم من هذا هو أن لهذا المصدر دون شك أجندة سياسية تتلخص فى معظم الأحيان فى المحافظة على الأمر الواقع.. فكرة «اللاشىء».. فكرة «كله تمام».. فكرة «احنا حلوين كده وما فيش داعى للتغيير»، ولهذا إذا كان من المهم أن تسأل نفسك عند قراءة خبر ما: «ما هذا الذى أقرأه؟» فإن من الأجدر أن تسأل نفسك: «أين ذلك الذى لا أقرأه؟»، ومن الواضح أن سيطرة الدولة من هذا المنطلق على الصحافة لا تهدف تماماً إلى تمكينها من القيام بالدور الذى خُلقت من أجله بقدر ما تهدف إلى تحييدها.

أما المصدر الثانى فيرتبط برأس المال الذى يسعى إلى بيع سلعته أو خدمته إلى أكبر عدد ممكن من القراء فى مقابل أجر معلوم يدفعه للصحيفة. تقع الصحف، خاصة الناشئة، فى معضلة البيضة أم الدجاجة؛ إذ يريد أصحابها جذب أكبر عدد ممكن من الإعلانات فيما يريد المعلنون الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء، من الناحية النظرية تأتى لحظة بعينها يمكن لديها تحقيق الحد الأدنى من التوازن بين استقلال الصحيفة ومصلحة المعلن.

غير أن التجربة الغربية، خاصة فى أمريكا، أثبتت أن كثيراً من أصحاب الصحف التى تعتمد فى حياتها على هذا المصدر يتخذون الطريق الأسهل لتوسيع قاعدة القراء بالتركيز على الأمور التافهة والمانشيتات المثيرة. والطريف أننا إذا عدنا إلى الوراء كثيراً حتى عام 1983 فسنجد أن أحد أعلام الصحافة الأمريكية، بن باجديكيان، كان يحذر الناشرين من خطورة تمييع مستوى الصحافة واستبدالها بالتفاهات الرخيصة لإرضاء المعلنين، فى رأيه أن من نتائج هذا التوجه التحريرى فشل الصحافة فى تربية أجيال جديدة من القراء، ومن ثم تكون كمن أطلق الرصاص بنفسه على قدميه.

حتى قبل انتشار الإنترنت كانت أنف الصحافة فى طريقها سريعاً نحو الجنوب، فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية ابتعدت الصحافة الأمريكية عن الرسالة التى خُلقت من أجلها حتى استحقت إدانة نعومى كلاين، ومايكل مور، وسيمور هيرش، وجين ماير، وأعلام الصحافة الأمريكية الجادة. تراكم هذا فى رأى جون نيكولز وروبرت ماكتشيزنى مثلاً حتى وصلنا إلى أن «الصحافة الإخبارية الأمريكية أخطأت تماماً تغطية غزو العراق فدسّت فى حلاقيمنا أكاذيب باطلة باعتبارها حقائق تم التأكد من صحتها.

فى الوقت نفسه لم تتعرض على الإطلاق لفضائح المؤسسات الكبرى التى كانت تعيث فى المجتمع فساداً، بل إنها هللت وطبلت لفقاقيع اقتصاد هش غير واقعى، واليوم لا تهتم على الإطلاق تقريباً بالتحقيق فى أين تذهب تريليونات الدولارات التى تصرفها الخزانة الأمريكية باسم دافع الضرائب فيما لا تدخر وسعاً كى تغرقنا بالتوافه والأخبار المغرضة».

ليس غريباً فى ظل هذا أن يبتعد الشباب عن الصحافة وأن يشعر بالاغتراب (لازلنا نتحدث عن أمريكا بالمناسبة)، لقد هبط توزيع الصحف بشكل مخيف خاصة بين الأجيال الجديدة ولا علاقة لذلك بالقدرة على الشراء، بل إنه من غير النادر الآن أن تدخل بيتاً فلا تجد فيه جهاز تليفزيون.

سيكون مجرماً من يريد أن يصل، باسم «حرية التعبير»، بحال التجربة الصحفية الجديدة المصرية إلى ما وصل إليه حالها فى أمريكا، وسيكون أكثر إجراماً من يريد أن يصل، باسم «بحبك يا مصر»، بحال هذه التجربة إلى تأميم العقول وتكميم الأفواه والعودة إلى الوراء، لقد أثار الزميل أنور الهوارى فى مقال له قبل أيام قضية فى منتهى الخطورة لابد أن تخضع للنقاش، خاصة وقد أتيح له مقعد فى هذه الناحية مرة ومقعد فى تلك الناحية مرة أخرى.

إن فى أمريكا أشياء كثيرة جميلة، لكنّ من بين تلك الأشياء «الجميلة» التى ينبغى أن نعيش نحن بدونها أن ينطلق رئيس تحرير إحدى الصحف إلى غرفة الأخبار لمجرد تلقيه مكالمة هاتفية كى يصرخ فى محرريه: واحد «انتهت الحرب» وصلّحه.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة