"نصف حلم ـ نصف روح" .. قصة محمد عطية

الإثنين، 09 مارس 2009 02:01 م
"نصف حلم ـ نصف روح" .. قصة محمد عطية الإسكندرية ملهمة المبدعين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تتشبث أنامل اليد اليسرى، بالحافة البارزة لشباك الترام، المنطلق باكتظاظه نحو محطة الرمل *" .. تلبد أطراف القدمين، المنكمشتين فى حذاء رياضى متواضع، بالفراغ الممتد أسفل حافة بدن العربة، فوق مجموعة العجلات.

تنطلق اليد اليمنى فى الفراغ الهادر، ممسكة بكتاب مدرسى .. توازن المسافة بين الجسم الضئيل والحواجز المسيجة لمسار العربات، وأعمدة الكهرباء.

ترفرف الروح بجناحى الرهبة و المغامرة، بينما تجتاح قسمات الوجه قشعريرة تزم العينين اللامعتين، بدوائر تشد معها ما حول الأنف وفوق الشفاه، النابت فيها زغب الشارب، لأعلى ؛ فتفصح عن أسنان دقيقة بصفرة باهتة.

تتخاطف العينان ـ محاذرتين ـ نظرات مبتورة إلى داخل العربة، منطلقة فى فراغ خارجها المتمادى
تتمايل العربة .. تحمحم، قبل أن تبطئ قليلاً أسفل كوبرى الجامعة * ينضم الجسم بكامل ذراعه الأيمن مفروداً، ملصقاً الكتاب على بدن العربة الأملس؛ متحاشياً الاصطدام بالحائط الساند البارز، تحت السقف المعتم، بعرض الكوبرى.

عبر الزجاج المغلق، تلوح من العينين اللتين اتسعتا نظرة مفعمة .. تخترق نحو كرسى الصف المواجه من الداخل، يهتز إيقاع الأنفاس برجفة من الصدر .. تكاد إحدى القدمين أن تنفلت، وتهوى بالجسد. تتشبث الروح ببدن العربة أكثر، ولا ترتد النظرة التى ابتلعت المشهد الحى لكيان شفاف، قابع ببهائه، وبنظراته الساهمة نحو الجانب الآخر، خارج العربة.

تنزلق اليد اليمنى بغتة عن بدن العربة .. ينزلق معها الكتاب .. يكاد يسقط، حتى تجتاز العربات لحظتها المظلمة .. وتتسع مساحة الهواء قليلاً، يعود الذراع لينفرد فى الهواء، تطبق اليد على الكتاب بوهن مقاوم، يبتلع الحلق ريقه، يمتص الصدر دفقات هواء أقل سخونة، إلى أن ترتج العربات قبل ثوانٍ من وطء القدمين، مرتعشتين، رصيف محطة سان مارك*.

على الرصيف، ينطوى الجسم على ذاته، معالجاً ارتعاشه، تمتد الأنامل مرتبكة، تستل سيجارة وحيدة من الجيب الخلفى للبنطلون الـ "جينز" الساقط، إلى ما بين أسفل الظهر والمقعدة؛ لتستقر بين شفتين غامقتين مشتعلة.

يشد الترام لجام عجلاته، ثم يطلقها ؛ فتئز .. تزوم، ثم يغلق أبوابه، ينتفض الجسم الضئيل، تسرع اليد اليسرى، تشد إليها حافة الشباك .. ترتقى القدم اليسرى .. تستقر فى ذات مكانها، يتأرجح الجسم كله، تلحق القدم اليمنى باليسرى، يمتد الذراع الأيمن فى الهواء، يستنيم الكتاب تحت الإبط ..

تعاود الروح رفرفتها، ضد الهواء السادر فى لفحه، بشدة تتزايد ببطء، ينكفئ دخان السيجارة المتدلية من الفم .. يغطى الوجه المقشعر، تجتاح النفس رغبة فى القفز داخل العربة، يحول الدخان بين الوجه والداخل، ولا تغادر السيجارة ما بين الشفتين.

تزمجر العربات، تصلصل فوق القضبان، يزيد الترام من سرعته، تنتتر السيجارة من الفم متطايرة، يغافل الترام راكبيه بوصول مباغت إلى محطة "الشبان المسلمين*".

يتكئ الجسم على الحاجز الحديدى لرصيف المحطة، منهكاً، يتسحب الظهر لأعلى .. يرتقى الحاجز .. يريح الكعبين على أسفله، تمتط الرقبة النحيلة، تشخص العينان داخل العربة، التى لفظت جمعاً من شاغليها .. ترتكز على ذات البقعة المضيئة، التى انزاحت من حولها أبدان المتزاحمين، و تتراجع ـ رغم ذلك ـ رغبة، كانت فى القفز داخل العربة، تحل محلها رغبة فى إطباق الجفنين على نصف حلم مارق.

يستفيق الترام من سبات قصير .. تتثاءب عجلاته .. تعاود أزيزها المتسحب .. تزمجر .. تغلق الأبواب، و يعاود الجسم التشبث، الارتقاء، التأرجح، مناوبة النظرات، وقد بللت داخله حبيبات عرق دبقة، يخترق الهواء تحت ملابسه، تشمله قشعريرة ولسعة تزداد وطأتها مع ازدياد سرعة الترام، واهتزازات العربة فوق القضبان واندفاع الهواء تجاهه .. حتى تتقيأ العربات أغلب شاغليها عند مجمع الكليات فى محطة الشاطبى*.

تتدافع الأجساد .. تتداخل .. يخترقها الجسم النحيل .. ينهرس كتابه ويده بين صدره والمتزاحمين فى اتجاه "مجمع الكليات*"، يلفح الوجه ويتخلل الروح عبير مغاير ونسمة ندية، على إثرهما ترصد العينان ذاهلتين، كياناً أبيض شفافاً .. يحتضن كتباً .. يخطر ببهائه، وبنظرة واعدة واثقة، فى عكس اتجاهه.

(*) أسماء محطات ترام بمدينة الإسكندرية





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة