قصة "رائحة منتصف الليل" لعمرو عز الدين

السبت، 07 مارس 2009 01:40 م
قصة "رائحة منتصف الليل" لعمرو عز الدين لجنة التحكيم بجروب "كتاب جديد فى السوق"

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فازت قصة "رائحة منتصف الليل" لعمرو عز الدين من الإسكندرية بالجائزة الأولى للمسابقة الأدبية التى نظمها جروب "كتاب جديد فى السوق" بالإنترنت.
اليوم السابع ينشر القصة كما هى..

تعود أهل الحارة على رائحة الطبيخ الزكية التى تتسلل إلى أنوفهم حينما ينتصف الليل، آتية من تلك الشقة المظلمة دوماً إلا من ضوء شحيح ينساب كشعاع شمعة خجول عبر نافذتها الوحيدة المتسخة المطلة على الحارة الضيقة..

يقول الخياط ذو العين الواحدة وهو يرمق بها النافذة المتسخة حينما يسأله زبون من زبائن الليل عن تلك الرائحة: "هى بتطبخ دلوقتى"
وحين يسأله عمن يقصد يكمل: "طباخة نص الليل"..

تقول المرأة البدينة المتأوهة بهمس، تحت ضغط زوجها الأصلع اللاهث الغارق فى العرق دون أن تفتح عينيها: "هو ده وقت طبيخ" لكن زوجها لا يأبه لسؤالها، وهو يتحرك بآلية طالباً نهاية تلك الليلة المزعجة..

يقول الأحدب الجالس أسفل النافذة المتسخة، وهو يلوك - بكل نهم - شطيرة استخلصها من قمامة أحدهم: "الريحة دى معفنة .. سيبونى آكل" قبل أن يبدأ فى النواح الرفيع واللعاب يتساقط من فمه محملاً ببقايا شطيرته، حتى تنفتح نافذة أخرى وتمطر على رأسه مياهً باردة .. ينتفض على إثرها شاهقًا ويهب مهرولاً إلى بطن الظلام..

يترك الساكن الجديد قلمه وأوراقه وتنقطع أفكاره، حينما يشم الرائحة بدوره .. تنتقل أفكاره من مخه إلى معدته التى تجعله - لسبب ما - ينهض مأخوذًا ويفتح الباب متطلعًا إلى السلم المظلم الواهن .. فيرى ذلك الرجل الضخم يصعد متثاقلا..

يناديه بوجل، لكن الرجل لا يرد..

يرفع صوته المرتجف منادياً مرة أخرى .. فلا يجيبه سوى التجاهل..

يصعد خلفه مسيراً لا مخيراً .. يسمع صوت تقليب طعام .. تزداد الرائحة قوة ولا يزال ينادى بلا استجابة..

يتوقف الرجل الصاعد أمام باب عتيق مُغبر ثم يعبث فى قفله لينفتح ويدلف تاركاً إياه مفتوحاً.. فيتواثب صدر الساكن الجديد وهو ينادى بقوة أكبر .. ويتساءل داخله .. أما أيقظت نداءاته الصاخبة أحد من الجيران؟!

يقف متردداً عند الباب المفتوح .. صارت الرائحة هى الجو ولم يعد يذكر كيف كانت الرائحة قبلها .. صار يعتقد أنها موجودة وجود الأزل .. شاهد الضوء الشحيح الخارج من ما بدا له المطبخ .. صوت غليان ينبعث منه، وكلما ازداد قوة كلما بدت الرائحة أكثر وضوحاً..

ثم يسمع تلك الصرخة..

صرخة أنثوية حادة رفيعة، انخلع لها قلبه وتصاعدت ضرباته لتهزه بأكمله .. تلفت حوله منتظراً خروج الجيران مذعورين من بيوتهم .. لكن أحداً لم يخرج .. بقدم مرتجفة مترددة تقدم إلى الداخل .. المطبخ قريب ولا تزال الرائحة تنبعث منه لكنها صارت بداخله رائحة مخيفة..

أخذ يقترب .. صوت نحيب مكتوم يداعب أذنيه.. ينساب خيط من العرق على جانبى وجهه.. ثم يمد رقبته عبر باب المطبخ وينظر بكل الفضول الذى أزاح مشاعره الأخرى جانباً .. لتتسع عيناه..

فى الركن كان موقد صفيح فوقه آنيتان يعلوهما الصدأ وتكسوهما خيوط العنبكوت .. على قطعة الرخام التى تملؤها الحفر والأخاديد كانت الأكواب الزجاجية التى ذهبت شفافيتها .. إلى جوارها ملاعق النحاس التى انطفأ لونها .. ثم إطار خشبى به صورة لامرأة مليحة فى لباس الزفاف إلى جوار رجل ضخم له شارب كثيف يقف فارداً جسده بكل ثقة .. زجاج الصورة كان مشروخاً كأن هناك من ضربه بقبضته، بينما فقد الإطار أحد أضلاعه..

لم تكن هناك شعلة نار واحدة فى المكان .. مصباح شاحب فقط يضىء المكان وأسفله أرض افترشتها امرأة متغضنة الوجه متشققة القدمين متسخة الثياب .. تستند إلى الجدار وتمد قدميها كالدلتا أمامها وتنتحب..

كانت مغمضة العينين لكنها سرعان ما فتحتهما وتطلعت فى وجه الساكن الجديد بنظرة تقتل رغم ما تملؤها من دموع..

مرة أخرى ارتد للخلف وكاد يسقط، بينما لم تنزل عيناها من عليه .. ثم فتحت فمها المفتقد لأسنانه تقول: "مش هيرجع .. والأكل ده مش هياكله .. مش هيرجع"..

كلمتها الأخيرة قالتها مقترنة بصرخة مولولة جعلته يقفز للخلف من جديد وهو يصرخ بدوره .. تعرقل وسقط على ظهره .. شعر بالدوار الشديد يكتنفه وروحه تنسحب من جسده .. الظلام يحيطه ويخفت كل شيء حوله..

ينظر الخيّاط بعينه الواحدة من أسفل ويقول: "مفيش فايدة .. ولا عمره هيرجع"

تفتح المرأة البدينة عينيها وقد ارتفع غطيط زوجها الذى نام فارغاً من كل شىء .. تنساب من عينيها دمعتان تبللان وسادتها وهى تقول هامسة: "مش هيرجع يا حبيبتى.."

تلفظ بطنُ الظلامِ الأحدبَ الذى عاد بشطيرة جديدة وهو ينوح:

اللى يروح عمره ما يرجع
واللى ييجى بيروح
كلهم طلعوا على السلم ومنزلوش
وإيه اللى طلعهم فوق
إيه اللى طلعهم فووووووووق

ثم يعود للنواح غير المفهوم..

تنفتح إحدى النوافذ إثر هبّة رياح شديدة فتطير الأوراق ويتدحرج القلم إلى الأرض .. ثم يصمت كل شىء وتختفى الرائحة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة