انقسام واضح فى الشارع السودانى حول قرار المحكمة الجنائية باعتقال الرئيس عمر البشير، فرغم وجود مظاهرات تؤيد البشير وتهاجم المحكمة الدولية، إلا أن هناك سودانيين يعترفون بوجود جرائم حرب فى دارفور ويطالبون بمحاكمة البشير.. اختلاف فى وجهات النظر على حاكم ماله وما عليه، فى ظاهرة جديدة لم تعهدها الشعوب من قبل وهى محاكمة رئيس لا يزال فى السلطة.
أرسل الروائى تاج السر حسين بمقال لليوم السابع، رأينا أن ننشره كما هو دون حذف، وهذا هو نصه:
ما أن أعلنت المحكمة الجنائية قرارها باعتقال البشير، حتى عادت "الإنقاذ" إلى مربعها الأول، مستخدمة نفس الخطاب الجهادى المتطرف المحرض على العنف، وبذلك أحبطت من كانوا يظنون بأن "الإنقاذ" غيرت جلدها وخطابها، حينما ارتدت جلداً جديداً اسمه "المؤتمر الوطنى".
لكن هب أن شعب السودان كله تغير وأصبح على قلب رجل واحد، وأنه واقف يداً واحدة ضد قرارات "المحكمة الجنائية الدولية" التى تضم فى عضويتها ثلاث نساء، من بينهن قاضية من غانا .. لا قرارات أوكامبو كما يزيفون الحقائق ويصورون إنساناً كرمه الله عادلاً ونزيهاً يعمل من أجل استرداد حقوق المظاليم فى العالم - قدر استطاعته - ويمسح دموع الجوعى والأرامل والمغتصبات .. يصورونه على شكل "خنزير" فى دولة الإسلام والمشروع الحضارى.
هب أن هذه الجماهير الهادرة تكبدت المشاق وجاءت فعلاً من تلقاء نفسها، ولم تحشد بالتهديد والوعيد فى المكاتب وبالخوف من فقدان الوظيفه، أو بالتحفيز وبذل العطايا، وبالمنح والهبات التى تعدت حدود السودان لتبذل للمرتزقه والمأجورين فى مجالات الصحافه والإعلام، وعلى نحو لا يصدق ولا يتصور، فمن كان راتبه لا يزيد عن الـ 1000 جنيه استلم فى مرة واحدة أكثر من 10 ملايين، لذلك أصبح "مخلوعاً" وملكياً أصبح من الملك!!
هب أن شعب السودان لم يخدع بتغبيش الواقع وتزييف الحقيقة، ولم تفتعل له خصومة مع أوكامبو الذى لا تربطه بالبشير علاقة نسب أو إرث على أراضٍ متنازع عليها بينهما، وإنما هو مدعٍ عام أو "وكيل نيابة" عرف بالنزاهة وطهارة اليد، تعامل مع قضية البشير من خلال معلومات مؤكدة وصلته من عدة جهات بينهم شهود كانوا قادة فى القوات المسلحة السودانية!!
هب أن شعب السودان كله "حقيقة" يحب البشير حبا جما، رغم ما ارتكبه من مجازر منذ أن وصل إلى سدة الحكم متآمراً، وعن طريق غير ديمقراطى بل ممتطياً ظهر دبابة، وخدع الأمة السودانية كلها مخفياً انتماءه الحقيقى "لحزب الهوس والتطرف الدينى"، فأرسل شيخه للسجن وذهب هو للقصر، ريثما تهدأ الأمور، وحينما هدأت الأمور انقلب على شيخه الذى يقبع الآن فى السجن لا بتمثيليه وإنما حقيقة.
هب أن أم مجدى محمد أحمد ابن أخ وزير خارجية السودان الأسبق الأديب جمال محمد أحمد، قد نست أحزانها ومسحت دموعها، ومن أجل شعار "الوطنية" وقفت إلى جانب البشير، وهتفت ضد أو كامبو، ورفعت صورة له على شكل "خنزير"!! وكذلك فعلت أم جرجس (الطيار القبطى الذى اتهم بالمتاجرة فى الدولارات وأعدم مثل مجدى) !!
هب أن أمهات وزوجات وأبناء وبنات وإخوان وأخوات شهداء رمضان الذين ذبحوا بدم بارد ولا يعرف مكان قبورهم حتى الآن، اعترفوا بأنهم كانوا مخطئين بخروجهم فى المسيرات المنددة بالبشير وجماعته عند كل ذكرى فى كل عام، هب أنهم تناسوا ما تعرضوا له من ضرب بالهراوات واعتقال تعسفى، المهم فى الأمر أنهم قد اقتنعوا بما حققه البشير من إنجازات تتمثل فى عدد من العمارات الشاهقة وفى شوارع الأسفلت فى العاصمة الخرطوم وفى "سد مروى"، وإن ذلك المال الذى صرف بالمليارات على تلك المشاريع دون حسيب أو رقيب، كان ملكاً حراً للبشير ورثه من جدوده لا مال سودانى دفع للشركات المنفذة وللمهندسين والخبراء السودانيين والأجانب والعمال مثلما يحدث فى أى بلد آخر، لكنك لا تلاحظ فى تلك البلدان احتفالات تقام وسرادق تنصب ورئيس يرقص.
هب أن ملايين الموتى فى الجنوب بعد الإصرار على حرب جهادية مدمرة، وأن القردة التى كانت تكبر فى غابات الجنوب مؤيدة "لصحابة" القرن الحادى والعشرين، ومئات الألوف من الموتى فى دارفور قاموا من قبورهم ووقفوا صفاً واحداً إلى جانب المغتصبات والمشردين بواسطة الصالح العام مؤيدين للبشير الذى لم تلد حواء السودان فى تاريخها الطويل منذ بعانخى وحتى اليوم، من هو أكثر منه "رجولة" وعلماً ووعياً سياسياً!
هب أن التجار ورجال الأعمال فى السودان رغم أنهم يحتاجون "لكفيل" من منتسبى "الحركة الإسلامية" لكى يستوردوا بضائعم ولكى يسوقوا تلك البضائع ولكى يستلموا حقوقهم وشيكاتهم، قد تناسوا كل ذلك وما يفرض عليهم من إتاوات مرة على شكل ضرائب باهظة ومرة كزكاة ومرة أخرى "كجزية"، هب أنهم وقفوا من أجل عيون الشبير ضد أوكامبو.
وأخيراً هب أن "الوطنية" أصبحت قميصاً مستورداً مصنوعاً من القطن السودانى غير مسموح لك أن ترتديه، إلا إذا أيدت البشير ووقفت إلى جانبه وخرجت مع الحشود الهادرة ودعمته حتى لو كان خنجره فى تلك اللحظة مغروساً فى ظهر أخيك .. لكنك تناسيت دم أخيك وتركته ينزف وأيدت البشير وغنيت معه ورقصت وشتمت أم أوكامبو.
فهل يتغير البشير وجماعته ؟؟
هل نرى السودان فعلاً بلداً ديمقراطياً .. "كل واحد عنده رأى و كل واحد عنده دين" ؟؟
هل تصبح الوظائف العامة والثروة متاحة لكل سودانى بذات القدر ولا يميز أى سودانى عن أخيه بطول لحيته أو قصرها وإنما بالكفاءة وحدها؟
هل تتوقف عبارات قبيحة كريهة غبية مثل "لن نسلم سودانياً لمحكمة كافرة، وأحد "الكفرة" بمفهوم البشير وجماعته يعتلى منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، وأجبر نائب الرئيس المسلم ان يذهب له فى الجنوب مستجدياً خشية من موقف مخالف من قضية "الرئيس" مع الضمير العالمى والمجتمع الدولى لا مع أوكامبو وحده؟؟
وأهم من يظن ذلك .. فحتى المسيرات التى سيرت والحشود التى جمعت خاطبها البشير بذات اللسان الجهادى "الإسلامى" المتطرف، الذى لا يحترم الآخر وفكره ومعتقداته الدينية، وبذات العبارات الغبية الفجة فى بلد ملئ بالأدباء والشعراء والمفكرين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة