حديث الأصدقاء عن "حال البلد" شيق ومحزن فى نفس الوقت، فكل واحد منهم يحاول أن يفسره على خلفيته الخاصة من عمل ومرتب وزوجة ومصاريف وبيت وعدد أولاد وتكاليف مدارس، كل هذا مخلوط برؤية مميزة لوضع اجتماعى واقتصادى وسياسى، لنخرج فى النهاية بسير لحيوات تشكل الوضع العام فى بلدنا الحبيب.
وشخصيا أرى أن التفكير، ومن ثم القطع بكون كل شىء ليس بالضرورة سلبيا ولكنه وبنفس القطع يصبح إيجابيا، حين نتفادى الخطورة التى تكمن وراء عدم الرضا والحنق حين تتحول إلى كبت وتحريم وعدم تصريح بالمواجع، واحتمال تأدية ذلك إلى عنف ما كوسيلة لحل ما، ولكن أن نتكلم عما يشغلنا ويؤرق مضاجعنا فهذا هو أول طريق الحل أو لعله كذلك.
ورغم كون الحال هكذا سىء وباتفاق مذهل يفوق كافة الغالبيات حتى الديمقراطية منها، فالجميع يتفق على أن هذه البقعة من الأرض كجزء من عالمها (العربى الإسلامى المسيحى الشرقى الأفريقى الآسيوى والفرعونى حتى لايغضب البعض من عدم ذكرها) يعتبرونها من أجمل بقاع الأرض لإنسان هو نادر فى تعايشه مع كل العناصر بشمسها وقمرها ونجوم ليلها ورملها وجبالها، وأن هذا الانسان قد صقلها كلها معا فى عبارة واحدة اصطلح على تسميتها بمصر (حماها الله).
وبعد كل جلسة مع الأصدقاء كنت أشعر بأنى قد انتهيت لتوى من محاضرة لابد لى وأن أعى درسهان ولكن مع يوم جديد تبدأ المحاضرات والدروس من جديد لتظل المقولة-الحكمة (يموت المعلم ولا يتعلم) سارية وغير قابلة للنقاش.
(فى الواحات سترى مصر لا تعرفها ولم ترها بعد. إنها مصر الأخرى!) كانت جملة قالها لى صديقى الشاعر ونحن فى السيارة المجهزة لقطع الصحراء نعبر طريقا رديئا وعرا يمر بهضبة الأهرام كبداية غير موفقة لجمال غير مكتمل، حيث ظل الطريق على حاله هذا كيلومترات، بدأ بعدها الطريق الموازى للوادى واضحا وعن بُعد، وكان دليلنا شابا جميلا من الواحات هو (وليد) يقود سيارته أمامنا ومعه ضيفان زائران من الولايات المتحدة - عائلة تقضى فترة تقاعدها فى السفر وزيارة الحضارات القديمة وعلى دراية كاملة بحضارات الشرق وتاريخه- كان حديثهما معنا يبرز ثقافة عالمية وروح التغيير الجديدة فى بلادهم وكان تعليقاتهما كمعالم على الطريق- طريق الواحات.
وطريق الصحراء الغربية خال من البشر والمبانى والخدمات كذلك لا تقابلك فيه سوى سيارة تمخر عباب الطريق المقابل ويستمر هذا لساعتين، من القيادة أو يزيد قليلا إلى أن تتغير معالم الرمال لتضم كتلا من الحجارة البنية الكبيرة، وهى منطقة الغابات المتحجرة على يمين ويسار الطريق لأشجار عملاقة حفظتها لنا الرمال كمومياوات لتدل على تاريخ الأرض التى تحولت من حدائق غناء إلى صحراء بانحسار الماء عنها بعد أن كانت غنية بها.. إنها المتحف المفتوح للتاريخ والذى يجب أن يحفظ بشكل أو بآخر لتكتب لافتة هنا أو هناك تُعرِفُ بالمكان حيث لاشىء يدل عليها.
وعلى الطريق يسير أمامنا باص تصدر عنه أصوات موسيقى مصحوبة بتهليل وتصفيق مصاحب لأغانى جماعية يرددها الطلبة منذ الستينيات، عبرناه لنقابله بعد فترة قصيرة فى استراحة الطريق الوحيدة، حيث اتضح أن هذا الباص لشباب من كشافة الوجة البحرى يقومون برحلة للواحات البحرية فى عطلتهم الجامعية.
حيّانا أحد الكشافة ليسألنا بعد السلام عما يمكن رؤيته فى هذه الواحات؟ فدعوناه للجلوس وسألته إن لم يكن قد سمع أو قرأ شيئا عنها فميّع النفى وأجاب بأن واحدا منهم كان ذات مرة منذ عام أو أكثر فى الواحات ولديه فكرة (يعني) بسيطة عنها وسيقوم بعمل الدليل لمجموعة يصل عددها إلى المائة! وإن كان يدل ذلك على شىء فإنما يدل على أمية، ولنقل نسبية لشباب هم أولى بالمعرفة ببلدهم وهم (الكشافة) وإن كنت أحيى فيهم روح الرغبة فى المعرفة رغم ضعف الإمكانيات، ولكن فلنرى نظيرنا الزائر السائح يأتى مسلحا بالكتب وبالدليل المقروء والمصور بالخرائط لا يسأل إلا إذا احتاج لمعلومة أو لتأكيد أخرى، عدا عن حنجلته والفخار بما لديه من إمكانيات قد نرى كونها فوق ما نحتمل، فلم نأت لنقرأ فى هذا الجو الممتع ولا لتصفح الخريطة التى تذكرنا بحصة الجغرافيا فى مدرسة بائسة ولا لمعرفة العمر الجيولوجى البالغ القدم للمكان الأثر فى هذه المدنية السريعة، بل لنرقص ونأكل ونشرب ونصور جماعات منا صورا يمكن أخذها نصفيا أو حتى بالحذاء مستندا على زميل أو متكأ على آخر فى أى مكان آخر، وليس فقط على خلفية الواحات والأهرامات الثلاثة لتؤدى نفس الوظيفة، وهى بالطبع للذكرى الخالدة وهى العبارة التى ننقشها على العزيز والقديم والنفيس من جدراننا.
وتستمر الرحلة لينحرف دليلنا (وليد) عن الطريق وكان ذلك لازما للوصول إلى (الغرود) وهى الكثبان الرملية المتحركة والتى تتشكل كل يوم تبعا للرياح، وبدت اليوم كهضاب ترتفع إلى 50 - 60 مترا لتنبسط على ركيزتين من مطالع رملية ناعمة حادة الزوايا تمتد على مسافة الكيلومتر من جانبيها يجد المرء صعوبة فى الخوض بقدميه فيها لنعومة رمالها فما بالك بالسيارة. ويحتاج السائق إلى حنكة ودراية بهذه الطرق ومن يقطعها وبدون الدراية الكافية فهو ولاشك أسدٌ وهذا ما أطلقته على الشاعر الصديق والذى اعتز كثيرا باللقب الجديد.
وعودة إلى الطريق مرة أخرى لنقطع منطقة المناجم وبوابتها الأمنية للكشف على السيارات المارة بطريقة تبدو بدائية أو مبسّطة، فواحد من جماعة كبيرة تقوم على البوابة أظنّه شرطيا يقوم إلى العربة متكاسلا وبخطوات ثقيلة بعد أن يتثائب من كآبة يعرفها من خدم فى الصحارى لينظر فى الوجوه ويسأل (إلى أين؟) ولا ينتظر جوابا ليفتح لنا الطريق. وهاهى قرية الباويطى فى أول الواحات تستقبلنا مع جو ربيعى بديع وبنية تحتية لا تختلف عن نظيرتها فى ريف مصر تحتاج إلى إعادة تفكير قبل أن تتحول وبالكامل إلى عشوائية قبيحة بعد أن تحول معظمها لذلك.
والقصص المروية عن مهازل صفقات بيع الأراضى تحول الجنة المحتملة لدينا إلى شك فى النجاح، ففقر الأهالى يؤدى بهم إلى بيع أراضيهم ليس فقط للمصريين ليصبح المالك أجيرا والأجير مأمورا بأبخس الأسعار، وهذا انتهاك صارخ لقيمة الإنسان أمام رأس المال المستورد والجاهز للنيل من قيمة الأرض. وبعد أن توجهنا إلى الفندق المملوك لألمانى مقيم والمجهز للأوربيين ببساطة شديدة مثل الطعام الذى يقدمه كان عزاؤنا هذا الغروب اللوحة لفنان أبدى خالد ولسان حالنا يقول: علَّ الشروق يكون مثلك! وهو بالفعل كذلك.
وللحديث بقية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة