قضايا الرأى كانت ومازالت قضايا شائكة عبر التاريخ لخصوصيتها الشديدة، وفيها يلعب الرأى العام المهيَّج ومن وراءه وسائل الإعلام المهيِّجة، دورًا كبيرًا فى المطالبة بالثأر وتنفيذه، دون ملاحظة أن هذه الإثارة بجانب التهييج هما وسيلتان لأنظمة مهترئة للحفاظ على استمرار تفعيل "القيم" التى عصب النظام ليبدو الأمر طبيعيًا بالتمييز غير العقلانى بين الجانى المتهم والمجنى عليه، أو ما يعنى أحيانًا كثيرة الصراع بين الخير والشر مطروحًا فى صورة جناة أبديين ومجتمع عذرى برئ. والبعض يُطلق على هذا التعامل غير البرئ مع مشاكل يومية حينما تصل هذه إلى ساحات القضاء لفظة "المسرحية" لما يروه من حبكة توزيع الأدوار انتهاءً بقرار الإدانة المسبق لتُغسل خطايا المجتمع المفترض فيه البراءة خطأ ليصبح كحال الذئب من دم يوسف.
وأبرز أمثلة هذا القضاء المسيَّر أو المسرحى فى تاريخ الإنسانية الحديث كان نظام القضاء الهتلرى الفاشى فى ألمانيا، والذى بدأ مع استيلاء (القائد) وحزبه على السلطة عام 1931 واستمر إلى لحظة وصول القوات الروسية المحررة لبرلين العاصمة فى مايو عام 1945 حيث كانت محاكم النظام تطبخ أحكامًا تخضع لنسق كامل متكامل من القيم التى كان (الفوهرر أدولف هتلر) يقررها أو يراجعها بنفسه لنظامه. ونظرًا للتقليد الألمانى العريق والمتعلق بحفظ كل شئ يخص الدولة فى "أرشيف الدولة" - وليس فى خزانة صحفى النظام الأول كما كان عليه الحال فى مصر الستينيات، والذى نرى توابعه أسبوعًا يلى الآخر على الفضائية العربية المعروفة – ومن هذا الأرشيف المحفوظ كاملاً متكاملاً يمكننا الاطلاع على محاضر الجلسات القضائية ومشاهدة وقائعها التى كانت تسجل بآلات تصوير سينمائية متقدمة فى وقتها ومن ثقوب فى الحائط أُعِدت لذلك خصيصًا وبعناية أعلى منصة القضاة الثلاثة، وفى جوانب القاعة ليمكن منها تصوير القاضى وكل ما يتحرك فى الصالة وبأكثر من زاوية ليتم بعدها القصقصة والحذف أو الإضافة لعرض خيانة المجرمين للنظام، الذى لا يبغى إلا خدمة الشعب، وبحذافيرها وكاملة على الشعب المخدوم والمضحى فى سبيله بأبنائه وليس بأبناء القردة والخنازير.
أما عن النظام الهتلرى فقد انهار، لكن تاريخه القضائى المصوَّر مازال باقيًا فى أرشيف الدولة - كما قلت - والذى يقوم التليفزيون الألمانى وكذا النمساوى بعرضه بين الحين والآخر لتوعية الشعب بحقوقه، وخلال عرضها نرى الجانى أو المعارض أو ما يُسمى بالمتهم يرتدى بدلة وربطة عنق ولا يجلس فى قفص محاط بالأسلاك (كالكلاب) بل على كرسى نظيف أو على منضدة عريضة إمّا أمام منصة القضاء مباشرة أو على جانبها الأيمن، وهذه تقاليد لم يتمكن النظام الفاشى من منعها أو إلغائها، ورغم أن النظام كان يمنح أعدائه فرصة الدفاع عن أنفسهم ويُوفر لهم وكيلاً أو فريقًا من المحامين، إلا أن هذا الدفاع - عدا حالات نادرة - كان يشترك مع هيئة القضاة والمدعى العام فى إدانتهم إمَا بالسكوت، وهو علامة الرضى، أو بالسخرية والتهكم من محاولة المتهم تبرئة نفسه أو تبرير فعلته، ليصدر القاضى بعدها حكمًا قاسيًا، وكما هو معروف عن هذه الأنظمة ليقرأ إدانةً أُعدت قبل بدء القضية متضمنة أقصى ما يمكن للمرء تخيله من عقوبة يبغى النظام منها الوصول إلى هدفه المنشود والمتمثل فى رسالته إلى الشعب المخدوم، وهى العبرة كما يقول مثلنا (اضرب المربوط يخاف السائب!).
هذا ولا يُخفى على المطلع أن هناك نقاط تلاقى لنظم عرفناها وأخرى نعيش فى خدمتها مع تلك النظم الفاشية فى محاولة منها لتدعيم وجودها وشرعيتها سواء كانت ثورية أو مدنية وبأى وسيلة، وإن كان الهدف الْمُبتغى مختلفًا بالطبع، فنظمنا لم تحاول طرح نظرية تفوق الجنس العربى ولا فرض هيمنتها على منطقة لا تخصها، فهى هنا تحتل موقعًا ضعيفًا فى زمن القوة، ولكن نقطة التلاقى التى أعنيها كانت تتمثل فى شامل الإطار القطرى المحلى، والذى كان قد يمتد ليشمل أجزاءً من الوطن الكبير. ولو أخذنا مصر كمثال لهذا نجد فى محاكمات الإخوان المسلمين أمام محاكم الثورة دليلاً على هذا الالتقاء، فالضابط (جمال سالم) رئيس محكمة الثورة وإلى جانبه عضو المحكمة (أنور السادات) يتهكم سائلاً أحد المتهمين فى قضية محاولة اغتيال الرئيس فى المنشية عام 1954 عما إذا كان يحفظ شيئًا من القرآن، كالفاتحة مثلاً، ليعود فيأمره بقراءة إحدى السور القصار من نهايتها إلى بدايتها أى معكوسة لتضج صالة المحكمة بالضحك على الطريقة الهتلرية. وفى خطاب لعضو المحكمة نفسها، وهو أنور السادات وكرئيس للجمهورية فى نهاية السبعينات أمام أعضاء البرلمان المفترض له أن يكون السلطة التشريعية الأولى فى البلاد، والذى غنت له إحدى عضواته (قول ياسادات دا كل كلامك حكم!)، يذكر السيد الرئيس المؤمن وكبير الشعب واحدًا من معارضيه الإسلاميين فى معرض حديثه ليشبهه بالكلب، (أهو مرمى زى الكلب فى السجن)، دون أن يقف واحد من ممثلى الشعب ليقول له (قف سيدى، إنه الآن مسئولاً أمام القضاء). إنها قضايا الرأى التى تجعل أجهزة القضاء قدرًا وتجعل الشعب - وعلى غير العادة المتبعة – حاكمًا يُسأل عن رأيه المهضوم، وهذا حقٌ يُراد به باطل.
فكرت فى كل هذا وأنا اقرأ تصريحًا للشخصية الإسلامية الأولى فى مصرنا والذى نُشر فى الأهرام وهى الجريدة القومية الأولى، بتاريخ 12 من شهر مارس 2009، تحت عنوان (شيخ الأزهر: أعضاء من يتم إعدامهم مباحة دون استئذان)، جاء فيه: "أجاز فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر الاستفادة الطبية من الأعضاء الطبيعية لمن ينفذ فيهم حكم الإعدام دون اشتراط الحصول على موافقة مسبقة منهم" – وبعد، أليس هذا تمثيلاً بجثة من وقع عليه المجتمع الجزاء المقابل لجريمته؟، وألا يعتبر هذا عقابًا ثانيًا فى مجتمع تقليدى يرى أن نقل الأعضاء حرامًا لايقبله الدين؟ وهل يجوز توقيع عقوبتين على شخص لارتكابه جريمة واحدة؟ وهل لهذا الجواز والتصريح علاقة بالعشرة الذين وقعت عليهم عقوبة الإعدام على خلفية جريمة الاغتصاب التى ارتكبوها فى كفر الشيخ عام 2006؟ وهل تمثل أعضاء هؤلاء الآن قطعًا للغيار لمن يدفع، أم ستعتبر صدقة لمن سيحتاجها؟ لانتهى إلى أسئلة أخرى أوجه بعضها بشكل عام والبعض الآخر إلى كل من يهمهم الأمر بما فيهم القيادات الدينية وهى: هل إعدام العشرة هو القصاص الشرعى للاغتصاب؟ وإذا كان كذلك فما هو الدليل النصى الذى دُعم به الحكم الصادر عن المحكمة المدنية؟ وأخيرًا ماهى المسئولية التى تقع على عاتق المجتمع لتلافى مثل هذه المهازل من اغتصابات لسيدات موقرات إلى أحكام بإعدام عشرة من شبابنا فى عمر الورود؟