ما هو الخطاب الدينى؟ ليس الفكر البشرى هو الذى يبتدع كلمات الدعوة أو الخطاب الدينى، بل الدعوة ذاتها المكتملة والرسالة الواضحة هى التى تشق الطريق للفكر النظرى وتصبح موضوعاً للخطاب الدينى وليست الكتب التى نؤمن بها موحاة ومقدسة إلا خطابا من المطلق الأبدى إلى الإنسان الزمنى وعقله المحدود، ويتميز الخطاب الدينى عن الخطاب الفلسفى تميزاً واضحاً، فالفكر الفلسفى هو فكر فردى شخصى فى جوهره الفلسفة من طبيعتها عمل فردى تأمل فى الحقيقة مجالها العقل تصبح قابلة للتبليغ بواسطة الكلام أو تصبح خطابا بعد أن يتصورها العقل.
أما الخطاب الدينى فهو على العكس تماماً هو عامل وصل وتبليغ بفضله يقوم الاتصال ويتوطد وبفضل الخطاب الدينى يصبح العقل إنسانياً، إذا جاز التعبير، أى مادياً واجتماعياً إنه خطاب يهدف إلى توهج الإيمان بطريق مختلف تماماً عن نهج الفكر الفلسفى أو السياسى أو الاقتصادى.. هذا الفكر يعمل على نقل النظرية إلى الآخرين، أما الخطاب الدينى فهو خلافاً لذلك أول ما يكون دعوة إلى المشاركة إلى وحدة الروح وتربية الضمير بواسطة نقاء وصفاء الكلام الخطاب الدينى، يحمل سمة ومعنى اجتماعياً منذ البداية، ثم يصبح بعد ذلك اجتهاداً شخصياً إذا تسرب إلى الوجدان للوصول إلى الحقيقة.
الخطاب الدينى يحاول أن يكشف عن عظمة الله وكماله المطلق وبهاء شريعته، ومن ثم لا يستطيع الإنسان الاتصال بالله إلا بالقدر الذى يتصل بإخوته البشر، فالصلة بالله والصلة بالآخرين من بنى البشر مرتبطتان ارتباطاً لا ينفصل متبادلاً لا مجرد تجاور أو تشابه وإذا شئنا القول مع المتصوفين، إن الله يأبى أن يأتى إلى الإنسان إلا بواسطة الإنسان نبياً أو داعياً أو واعظاً.. إنها سنة الله فى خلقه أن يكون الإنسان هو جسر الله إليه تبارك وتعالى ليكون لله مسكن فى أعماقه كما يقول المتصوفة.
ليس كل إنسان مؤهلا للخطاب الدينى، ففى جميع مجالات الفكر البشرى المختلفة تنوع كبير فى المواهب، هذا أمر لا يخفى على أحد ولنأخذ مثلاً فى مجال الموسيقى نجد إلى جانب الموهوبين المبدعين أناساً مجرد متلقين أو ناقلين وبعضاً لا يمت للموسيقى بصلة يتخذها مهنة لا فناً أو رسالة، وقل الأمر ذاته عن أصحاب الخطاب الدينى، فثمة الموهوبين دينياً وثمة من لم يحظ بغير القليل الضئيل من علوم الدين والموهوبون هم قبل كل شئ أصحاب خبرة روحية وخبرة دينية وممارسة فى الحياة يتمتعون بموهبة فالنبى أو الشاهد أو المتصوف الحقيقى هؤلاء يتمتعون بالقدرة على إقامة اتصال مباشر فى تأملاتهم للمطلق الأبدى، إنهم نادرون، قد أصبح الفكر الألهى أو قل عالم الله بالنسبة إليهم يقيناً قائماً على الخبرة والتجربة والكثيرون أو الأغلبية من ذوى المشاعر الدينية تعوزهم هذه الخبرة قد تكون لهم بلاغة الكلمة وجاذبية المتكلم، لكنهم فرغوا من العمق الروحى وروعة ممارسة التأمل يصبح الخطاب عندهم مهنة ووسيلة استرزاق.
فالخطاب الدينى قبل أن يكون بلاغة وحنكة ومهنة هو رسالة سامية تقدم للإنسان أسمى ما يجب أن يدركه وهو الإيمان بالله، واكتشاف كماله والدعوة إلى الحياة فى طاعته ومحبته أن سر الله الخالق الأبدى ومصير الإنسان إليه هو القضية الأولى للإنسان وللحضارة وللتعايش بين الشعوب، وفى سبيل التعبير عنها ينبغى أن يرقى الخطاب الدينى فى كلماته وأساليبه وحواره إلى أدب رفيع.
ومنذ بدء التاريخ حتى يرث الله الأرض وما عليها "الحق" هو موضوع النقاش المتصل بين البشر، فليس الخطاب الدينى مجرد "وسيلة نقل" من خلال منطق رياضى جاف، بل هو حلقة الصلة بين الوجود الأعلى الشامل وواقع البشر، بمعنى أن صاحب الخطاب الدينى عندما يتكلم عن الله وقضايا الدين لا يعبر عن ذاته وحدها، وإنما يعبر عن قدسية الخالق وهذا لن يكون صادقاً إلا إذا امتلك الخبرة الصادقة والنقاء وما يؤهله لهذا الخطاب.
* نقلا عن جريدة "حامل الرسالة"