سمعنا الكثير عن مشكلة قروض العقارات الأمريكية وتفريغ فقاعة أسعار العقارات, لكن هذه المشكلة كانت مجرد الفتيل الذى تسبب فى انفجار الأزمة المالية، والتى بدورها تسببت فى الركود الاقتصادى، لماذا كان الانفجار مدوياً إلى هذه الدرجة؟
الأصل أن نسبة الربح والخسارة تتناسب مع نسبة المخاطرة، لكن كما لاحظ الاقتصادى الشهير مينسكى (1919-1996), عندما تتوالى سنوات الرخاء, يفترض المجتمع بلا شعور استمرارها، وتسود حالة من الاسترخاء تؤدى إلى ابتكارات مالية وازدياد تدريجى فى كمية الاستثمارات أو المضاربات أو التكهنات المتزايدة المخاطر، بغرض زيادة نسبة الربح، والتى تستخدم نسبة مرتفعة من القروض حتى يتلاشى هامش الأمان. فى هذه الحالة, أقل أزمة يكون لها توابع ضخمة، الاسترخاء يصيب المستثمر والمقرض والقارض وحتى الحكومة والهيئات الرقابية فى نفس الوقت.
فى الستينيات والسبعينيات، عانت الولايات المتحدة من دورات ركود وازدهار عنيفة، أصبح الهدف الأول للبنك المركزى هو السيطرة على غول التضخم الذى وصل إلى 18% فى عهد الرئيس كارتر، وكان أحد أسباب فشله فى انتخابات سنة 1980، بول فولكار ـ محافظ البنك المركزى فى هذا الوقت ـ نجح فى كبح جماح التضخم فى أوائل الثمانينيات باستخدام سياسات نقدية متشددة، رغم حالتين قصيرتين من الركود الدورى المؤقت, عاشت الولايات المتحدة حالة من الرخاء بنسبة تضخم ونسبة بطالة منخفضتين جداً ونسبة نمو معتدلة من سنة 1983 إلى سنة 2007.
تغيرات تراكمية فى الاقتصاد الأمريكى كان من نتيجتها تضخيم عواقب أزمة القروض العقارية:
* من سنة 1980 إلى سنة 2007: نصيب شركات التصنيع من مجمل أرباح الشركات انخفض إلى نصف نسبته الأصلية, بينما تضاعف نصيب الشركات المالية من مجمل أرباح الشركات، فى 2003, كانت أرباح القطاع المالى 40% من مجمل أرباح الشركات.
* فى نفس الفترة, تضاعف إجمالى الديون الأمريكية من 169% من الناتج المحلى إلى 361% من الناتج المحلى، الحكومة من 39% إلى 53%, الأفراد من 50% إلى 100%, الشركات الغير مالية من 53% إلى 77% والقطاع المالى من 21% إلى 117% من الناتج المحلى، وبهذا زادت نسبة قروض المؤسسات المالية من 12% إلى 32% من إجمالى القروض.
* فى نفس الفترة, بالنظر إلى جانب الطلب للناتج المحلى, ارتفع الاستهلاك الشخصى من 63% إلى 71% من الناتج المحلى, بينما انخفضت الاستثمارات الخاصة من 17% إلى 14%، وبقى الإنفاق الحكومى حوالى 20%، بينما ازداد صافى الواردات من 0% إلى 5% من الناتج المحلى.
* انخفض معدل الادخار الشخصى من حوالى 10% من الدخل بعد الضرائب سنة 1980 إلى 1% فقط سنة 2007. كان ذلك نتيجة الاعتماد على تزايد قيمة العقارات كمدخرات وارتفاع الاستهلاك بما يفوق زيادة الأجور.
* بينما كانت 80% من القروض فى منتصف الثمانينيات خاضعة لقواعد وقيود قانونية, انخفضت هذه النسبة إلى 25% فقط فى سنة 2006. كان هذا نتيجة عدة عوامل منها إلغاء قانون جلاس ـ سبيجيل (سنة 1999) الذى كان يقيد حرية البنوك ويفصل بين بنوك الإيداع والبنوك الأخرى، وتساهل أو تقاعس الحكومة فى مراقبة توابع الإلغاء. بالإضافة لابتكارات الأوراق المالية المعقدة والمشتقات المتنوعة التى انتشر تداولها فى دول كثيرة وظهور مؤسسات مالية تعرف ببنوك الظل، كعادة الابتكارات فى أى مجال, القواعد الظابطة لآثار الابتكار تحتاج بعض الوقت للظهور.
* زيادة الاستثمارات الخارجية فى أمريكا من الدول المصدرة التى تملك احتياطياً مرتفعاً من الدولار مثل اليابان والصين والدول المصدرة للنفط ساهمت فى خلق حالة غير عادية من السيولة، وسهلت الحصول على القروض، وأسهمت فى زيادة أسعار الأسهم والعقارات.
* من قائمة فوربس السنوية لأثرياء أمريكا يتضخ أن القطاع المالى كان مصدر 9% من الثروات سنة 1982، وارتفعت هذه النسبة إلى 25% سنة 2006 من الـ 400 الأكثر ثراء.
* كمثال للتجاوزات نتيجة التفاؤل المفرط فى حسابات المخاطرة, نسبة استثمارات ليمان براذرز إلى رأس المال المملوك للشركة تعدت 30 ضعفاً، مما يعنى أن لكل دولار من الملكية, كان هناك 30 دولاراً ديون و31 دولاراً استثمارات، إذا خسرت هذه الاستثمارات 1%, تكون النتيجة خسارة 30% من الملكية ويسهل فهم كيف أدى هذا إلى إفلاس الشركة فى غياب احتياطى نقدى كافى أو هامش الأمان. أغلب البنوك لم تصل تجاوزاتها لهذه النسب, أى أنها كانت فى حدود أقل من 10 أضعاف بدلاً من 30 ضعفاً، ولكن بالطبع يمكن تصور أثر انخفاض أسعار العقارات على رأسمال البنوك فى وجود القانون الذى يلزم البنوك بتعديل دفاترها ليعكس رأسمالها القيمة السوقية للاستثمارات، (أكبر تجاوز فى هذا المجال كان لبنك هيب والعقارى فى ألمانيا، 112 ضعف!).
انخفاض أسعار العقارات أظهر نقاط الضعف المتجاهلة فى الاقتصاد الأمريكى، كما تشير الحقائق السابقة, زادت نسبة الاستهلاك والقروض على حساب الإنتاج والادخار، انتشرت "الهندسة" المالية التى تسعى لأرباح عالية قائمة على نسبة مرتفعة من القروض وغير مرتبطة بالإنتاج الحقيقى, يمكن تسميتها أرباحاً طفيلية، بالإضافة إلى ذلك, تكاسلت الهيئات الرقابية فى متابعة القطاع المالى، الأصل أن البنوك هى أداة المجتمع لتوظيف مدخراته فى مشاريع إنتاجية لمصلحة المجتمع كبناء المصانع وتمويل الشركات، وكان هذا من عوامل كفاءة الاقتصاد الأمريكى حتى حدثت التجاوزات تدريجياً فى الثلاثين سنة الماضية.
بعد الانهيار المالى المفاجئ (وإن كان القلة من بعيدى النظر قد توقعوه) تحولت مشاعر المواطن الأمريكى من الاسترخاء إلى الخوف والقطاع المالى من الجشع إلى الهلع، بالرغم من ضخ أكثر من تريليون دولار فى البنوك, إلا أنها أصبحت تتردد فى الإقراض لأى غرض، المواطنون عادوا للادخار، وامتنعوا عن الصرف بصورة مبالغ فيها، ومفهومة، خوفاً من عواقب الركود، بين انخفاض الاستهلاك بصورة كبيرة وإحجام البنوك عن الإقراض عملاً بالمثل "اللى يتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادى", تزداد حدة الركود تحقيقاً للمثل الآخر "اللى يخاف من العفريت يطلع له". رغم أن أمريكا بؤرة هذة الأحداث, إلا أن هناك دولاً كثيرة أصيبت ببعض الأمراض المذكورة، وساهمت فى خلق الأزمة. فى ظل العلاقات الاقتصادية الدولية, من الصعب أن تسلم أى دولة من توابع الأزمة، وإن اختلفت درجات التأثر.
هل تستطيع أمريكا علاج أمراضها واستعادة مكانتها؟ الواقع أنها ما زالت تمتلك مؤهلات عالية للنجاح:
* الجامعات الأمريكية أفضل جامعات العالم، حسب العديد من الاستطلاعات الدولية.
* ما زال الناتج القومى الأمريكى يمثل حوالى ربع الناتج العالمى وهو أكبر من مجموع الأربعة دول التالية فى الترتيب.
* رغم انكماشه نسبياً, قطاع التصنيع الأمريكى هو الأكبر فى العالم وينتج حوالى خمس الإنتاج الصناعى العالمى.
* مازالت أمريكا واليابان هى المصدر الأكبر للتطورات التكنولوجية والعلمية والصناعية والإنتاجية فى العالم، على سبيل المثال, حتى وقت قريب كان إنتاج شركة آى بى إم السنوى لبراءات الاختراع أكثر من إنتاج الصين والهند معا.
* المجتمع يتمتع بدرجة عالية من الديناميكية، على سبيل المثال: حوالى 25% فقط من قائمة أكبر 100 شركة سنة 1980 بقيت فى قائمة سنة 2005.
* ما زالت أمريكا تحتل المرتبة الأولى فى تقارير التنافسية الدولية.
* المواطن الأمريكى يعمل عدة مئات من الساعات سنوياً أكثر من مثيله فى الدول المتقدمة وإنتاجيته ما زالت مرتفعة.
أى أن هناك إمكانية كبيرة لنمو الاقتصاد الإنتاجى الأمريكى, وما زالت الفرصة متاحة للمجتمع الأمريكى لإصلاح أخطائه إذا توفرت الجدية.
الدروس المستفادة؟ التركيز على الإنتاج والادخار قبل الاستهلاك، القروض للإنتاج وليست للمضاربة، ترشيد القروض الاستهلاكية، تفادى الاستهتار فى حسابات المخاطر، الحذر من إغراءات الربح السريع بلا مجهود، البحث عن نقاط الضعف المحتملة حتى فى أوقات القوة، الابتعاد عن الأوراق المالية المعقدة بدرجة تستعصى الفهم، ومن ثم تخفى حقيقة المخاطرة، تحمل الهيئات الرقابية لمسئولياتها، كما تتحمل شرطة المرور مسؤليتها فى تحديد الحد الآقصى للسرعة ثم مراقبة السرعة الحقيقية ومحاسبة المخالفين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة