مدحت أنور نافع يكتب: قطار التغيير

السبت، 28 مارس 2009 01:41 م
مدحت أنور نافع يكتب: قطار التغيير

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أكتب هذا المقال علّنى أفهم من كلماتى المكتوبة ما يعجز عقلى عن إدراكه من مجرد تفنيد وتمحيص خواطرى الهائمة، فمستقبل مصر رهين بفك هذا الارتباط وحل تلك المعضلة، فالمطالبون بالديمقراطية وإطلاق الحريات وتداول السلطة لا يعرفون لهذا الطريق بديلاً لتطور المجتمعات البشرية وانتقالها من ظلمات التخلف إلى أنوار التقدم والازدهار، والمناهضون لهذا الفريق من الحكام والساسة وبطاناتهم الذين تأبدوا على مقاعدهم يصرون على أن هذا الطريق لا تسلكه القطعان الضالة، ولا يصح أن تسير فيه أمم ترفل فى الجهل والفقر والمرض، بل ويذهب أمثلهم طريقة إلى أن الديمقراطية على ما فيها من خلاص فقد تأتى بنتيجة عكسية مع شعوب متخلفة تسيطر عليها الخرافات وتتفشى فيها نسب الأمية العالية، ويستشهد أصحاب هذا الرأى الأخير بحالتى صعود حركة حماس إلى الحكم فى غزة ووصول الجماعة المحظورة إلى البرلمان فى مصر.

ففى هاتين الحالتين حينما أتيحت للشعب حرية الاختيار، فإنه لم يختر سوى جماعات التطرف الدينى ذات الرأى الواحد والحكم الإلهى المقدس، الذى يعود بنا إلى عصور الظلام، وهذا حق أريد به باطل، فتلك الحركات المتطرفة والجماعات الدينية المتزمتة لم تطفُ على سطح الساحة السياسية، إلا فى مواجهة حكومات مكروهة وأنظمة مرفوضة. كما أنها جاءت لملء فراغ الدولة الرخوة، التى باتت مظاهر ضعفها واضحة للعيان فى مجتمع تسوده مظاهر الفساد والرشوة والجرائم الشاذة والعشوائية الفجة فى الحرائق والمساكن والتعليم والسياسات.. وكلها علامات لا تخطئها العين فى دولة مثل مصر، أما فى فلسطين المحتلة وتحت نير الاحتلال واحتقان الشعب من نظامه العاجز لم تكن البدائل متسعة لاختيار أى تيار معتدل فى ظل غياب روح ومبررات الاعتدال عن الشارع الفلسطينى الملتهب أصلاً بالظلم والقهر والعدوان الإسرائيلى المتكرر، وبالتالى لا يستقيم القياس ولا تصح المقارنة بين الحالتين المصرية والفلسطينية.

وبالعودة إلى المثال المصرى الذى ينكأ جراح النخبة المنادية بالديمقراطية، فالإخوان المسلمون ليسوا البديل الأفضل، كما أنهم لم يبلغوا هذه المكانة فى أى من عهودهم السابقة، وفى مشاغباتهم مع النظام المصرى قبل يوليو وبعدها كانوا يراوحون مكانهم بين التطرف والمهادنة، يسعون فى برجماتية خلف مصالحهم الضيقة التى لا تستميل الشارع، إلا فى أضيق الحدود، وما الغريب فى هذا، فقد كانت هوجة عرابى تسعى لتحقيق بعض المطالب الفئوية للعسكر وسرعان ما اتخذت الشعب غطاءً لها لتتحول الهوجة إلى ثورة عقب ذلك بسنوات طوال، ثم جاء انقلاب العسكر فى يوليو 1952 لتحقيق مطالب فئوية ضيقة، ثم ما لبثت الحركة أن تحولت إلى ثورة وأرست مبادئ ستة لم تكن على أجندة هذا النفر القليل من الضباط قبل الإطاحة بالملك، فالشعب المصرى عادة ما يلحق بالقطار بعد أن يتحرك، وهو فى ذلك تارة يكون مرغماً وتارة يجد فى هذا القطار فرصة له لتحقيق طموحات لم يدركها وأحلام لم يحلم بها إلا بعد أن هيئتها له نخبته الحاكمة، فلا الشعب كان يعرف الاشتراكية يوم أن هتف بها، ولا الشعب يدرك طبيعة اقتصاد السوق الذى يعتصم به الآن، ولا الشعب يوماً أراد الحياة ولا القدر استجاب إلا للحركات العنيفة والتغيير القسرى، فهل معنى ذلك أن فرضية النخبة الحاكمة بعدم ملاءمة الديمقراطية للشعب المصرى صحيحة؟ الإجابة لا، والدليل على ذلك أن الوعى والتعليم اللذين يفتقر إليهما غالبية الشعب لم يحولا دون اندلاع الثورة الوحيدة فى تاريخ مصر الحديث، وهى ثورة 19، والتى تحرك بها الشعب للمطالبة بالجلاء ولدعم نخبة سياسية واعية ومعارضة محترمة متمثلة فى الوفد المصرى آنذاك، وقد كانت نسبة الأمية بين صفوف الثوار أكبر بكثير من المعلنة الآن.

كما أن زيادة نسبة المتعلمين بين صفوف الفلسطينيين لم تحل دون اختيارهم لحركة حماس التى اتخذت من التضحية بأرواح أهالى غزة، الذين أتوا بها إلى السلطة شعاراً لها فى صراعها مع العدو الصهيونى. كما أننى لا أستسيغ فكرة الدفع بالأمية كمبرر للاستبداد، فمن الذى عمل على تجهيل الشعب وإفقاره وإمراضه قرابة النصف قرن؟ فإذا كان النظام القائم هو الذى أفرز هذا النموذج الجديد الشائن للشعب المصرى، فلا يصح أن ينصّب نفسه أهلاً للوصاية على الشعب والاختيار باسمه، وأنى له تلك القوامة وقد أدى استمراره فى سدة الحكم إلى مزيد من الإفقار والتجهيل والإمراض والتمزيق لطوائف الشعب؟.

كما أن الدفع بأن هذا الوضع القائم لا يرضى رموز النظام الحاليين وأنهم يسعون إلى التحول الديمقراطى، ولكن ببطء حتى لا يسرع الشعب إلى تولية من لا يصلح حكم البلاد، هو زعم يشوبه العوار، حيث إن اختيار المعدّل المناسب لعملية التحول الديمقراطى المزعومة هو أمر تقديرى سقط مقدّروه فى معظم الاختبارات التى وضعوا أنفسهم فيها أمام الشعب، فلا هم رفعوا من جودة التعليم، ولا هم قضوا على الفتن التى تتفجر فى كل مكان، ولا هم رفعوا من درجة الوعى الانتخابى، ولا هم تخلّصوا من رذيلة التزوير فى الانتخابات، وإذا كان فاقد الشىء لا يعطيه، فإن العقل والمنطق يرفضان أن يكون هذا النظام قيّماً على عملية التحوّل الديمقراطى فى البلاد.

ما العمل إذن، إذا كان الشعب لن يحسن الاختيار؟، وإذا كانت الانتخابات النزيهة والمراقبة دولياً لن تأتى إلا بعصابات تعمل على دغدغة مشاعر المواطنين وشراء الأصوات بالمال والشعارات الدينية؟. وهل يعنى ذلك بقاء النظام الحالى جاثماً فوق الصدور أبد الدهر؟ خاصة وأن أية عملية إرهابية أو أسباب ملفقة كفيلة بأن ترتد بنا فى أى وقت إلى المربع واحد ديمقراطية، الأمر الذى نلمسه حالياً فى بعض التشريعات التى ترسى مبادئ تكميم الأفواه والحد من الحريات، الإجابة إذن يجب أن تكمن فى فضيلة التغيير فى حد ذاته. فالإنسان منذ خلقه الله تعالى يتعلم من أخطائه، ولا عيب أبداً فى التجربة وتعلّم الشعوب من أخطائها، لأن الشعب إذا ما أخطأ فى الاختيار مرة وكانت له فرصة التغيير، فإن العقل الجمعى للمواطنين سوف يتحرّك تجاه اختيار أفضل فى المرة المقبلة، خاصة إذا كانت المرة المقبلة بعد أربع سنوات وليس 40 سنة مثلاً.

كما أن الفرد الحاكم لن يستطيع أن يستبد ويطغى فى الحكم إذا علم أن الشعب الذى أتى به يمكن أن يخلعه لو لم يعمل لصالحه لا لصالح فئة صغيرة من أصحاب الملايين، وليس من الحكمة أن نطعن فى الشعب المصرى بأنه ضد الطبيعة البشرية، وأنه لن يتحلى بفضيلة التعلّم لا فى المدارس الحكومية التى أفسدها وزراء التعليم أو حتى المدارس الدولية التى لا يملك مصروفاتها إلا القادرون، ولكن يتعلم من أخطائه وتجاربه السابقة شأن أى إنسان بدائى عرف الله والنار واستطاع أن يميز بين الحق والباطل، كما أن تحوّل المزاج المصرى نحو التشدد فى ظل غياب قيم ومبادئ الأخلاق لا يصم الشعب المصرى بالسفه، ولكنه تحوّل عرضى ولد من رحم نظام فاسد وجاء عنيفاً ليدفع ضرراً أعنف وتشوهات مزمنة أحدثتها يوليو وما بعد يوليو 52.

بل إننى أذهب إلى أبعد من ذلك، فأوافق محامى النظام على دفعه بفساد مزاج وقرارات الشعب التى يقر أنها وليدة النظام، ولكنه يأبى أن يتخلى عن ولايته حتى لا يتمادى الشعب فى غيه وضلاله إلى حيث لا رجعة. تماماً كما اعترف عبد الناصر بأنه المسئول عن الهزيمة الأعظم فى تاريخ مصر، ولكنه فى ذات الوقت لن يتنحّى ويتخلّى عن شعبه العاجز المسكين؟. الأمور أصبحت الآن أكثر وضوحاً لى، فرؤوس الحكم فى مصر منذ يوليو 52 وعلى اختلاف أهوائهم وأمزجتهم هم ملة واحدة، ومنطق الوصاية الذى يتحدثون به لا يتغير.

وربما لم يدل رئيس الوزراء الحالى بتصريح يعنيه أصدق من وصفه للشعب المصرى بأنه غير مؤهّل لاستيعاب الديمقراطية، ولذا كان لزاماً عليه أن يسارع إلى نفيه، وإلا سارع آخرون إلى نفيه (التصريح وليس رئيس الوزراء). فهكذا يرى رجال النظام الشعب المصرى، أو هكذا يحبون أن يروه حتى تظل قوامتهم مبررة للداخل والخارج، ربما تساءل أحدهم هازئاً: وهل حكم البلاد لعبة لكى نتركها للتجربة والخطأ؟ والإجابة وبسرعة: نعم، فالسياسة لعبة وليست بالضرورة لعبة قذرة، كما يشيع البعض، فهى لعبة لا فى عبثيتها، بل فى انضباطها وخضوعها لقواعد وأصول، ولضرورة تحلّى ممارسيها بالمهارة اللازمة لإتقانها.
والضرر الذى يمكن أن تنتجه التجربة والخطأ مع التغيير خير ألف مرة من حالة الموات التى لا تسمع خلالها سوى صوت واحد ورأى واحد وسياسة واحدة وحزب واحد ورئيس واحد وعبد الواحد (الاسم الحركى لأحد الزعماء)، لأن التغيير هو ناموس الحياة الذى سنه الله عز وجل لكل المخلوقات ولم يستثنِ من ذلك أحداً إلا هو، "فسبحان الذى يغيّر ولا يتغير"، والحركة وإن تخبط بها صاحبها أحياناً، فهى دليل على الحياة.

والشعب لم يعد يطمح فى أكثر من الحياة، فماذا نخسر إذن من تجربة التغيير، مصر التى يخافون عليها ويتدافعون للوصاية على شعبها لم تكن أبداً دولة لاهوتية، ولن تكون، وإذا أردتم أن تصموا الشعب بالخبث والفساد والتطرف، فدعوه إذن يختار من يحكمه ولا عجب إذا أخطأ شعب بمثل هذه الصفات فى الاختيار، ولا أسف على مثل هذا الشعب من الضياع.

المشكلة تكمن فى أننا كلنا نريد التغيير، ولكننا لا نريد أن نصنعه بأيدينا، فالنتيجة إذن أحد أمرين، إما أن يستحيل التغيير فى ظل إرادة حقيقية ويبقى الحال الردىء على ما هو عليه وعلى المتضرر اللجوء إلى الله. أو أن يأتى التغيير بغير أيدينا، وهنا فلن نستحقه ولن نغنم ثماره وسيكون شأنه شأن أى قطار يمضى فنلحق به بعد أن يتحرك وبعد أن يطحن الغالبية بين عجلاته الطائشة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة