مَن أكثر المستفيدين من 11 سبتمبر؟.. الأنظمة العربية بكل تأكيد، لقد خسرت أمريكا وخسرت القاعدة وخسر المعتدلون وخسرتُ أنا وخسرتَ أنت، لكنّ أنظمتنا فى غفلة من الزمن ، منحت نفسها رخصة لتصفية معارضيها والتنكيل بهم وسن قوانين جديدة لإحكام قبضتها باسم الأمن، وباسم الله، وباسم الأخلاق، وباسم ما يوصف بالحرب على الإرهاب.
فى هذه الأثناء يتجه الرئيس الأمريكى الجديد إلى محاولة تصفية إرث ثقيل، من خلال عدة خطوات بدأها بالإعلان عن إغلاق معتقل جوانتانامو سيئ السمعة فى غضون عام. غير أن هناك ما هو أسوأ.. بكثير.
قبيل نهاية عام 2003 كان المواطن اللبنانى، خالد المصرى، الذى يحمل أيضاً الجنسية الألمانية، فى طريقه إلى إجازة رخيصة فى مقدونيا، استوقفته سلطاتها على الحدود الصربية المقدونية فيما بدا إيعازاً من أحد، كان اسمه فى جواز سفره الألمانى كافياً لالتقاطه، اقتيد المصرى مكبلاً بالأغلال إلى فندق صغير فى العاصمة المقدونية، اسكوبيا، لم يكن فندقاً فى عينيه، كان معتقلاً كئيباً بقى فيه رهن التحقيق لمدة ثلاثة وعشرين يوماً.
عند نهايتها، وفقاً لما رواه لنا خالد المصرى، عرض عليه ضابط الأمن الذى كان يقوم بالتحقيق أن يعقد معه صفقة: «أنت تقول إنك مع القاعدة ونحن نسمح لك بالعودة إلى ألمانيا»، رفض المصرى فغادر الضابط تاركاً المجال لأشباح وكالة الاستخبارات المركزية، سى آى إيه، فى مشهد رهيب تشابهت تفاصيله مع تفاصيل مشاهد أخرى حكاها لنا ضحايا آخرون، «فى داخل الغرفة وأنا معصوب العينين انهالت علىّ ضربات من كل الجهات، وبآلات حادة، ربما تكون مقصات أو سكاكين، قطّعوا الملابس.. يعنى كل شىء.. حتى أصبحت عريانا تماماً، وفى هذه الفترة كنت أسمع صوت آلات تصوير تلتقط بعض الصور، ثم دفعنى أحدهم إلى الأمام، إلى الجدار، وكان واقفا شخص أمامى أزاح العُصبة عن عيونى فنظرت فوجدت ربما سبعة أو ثمانية أشخاص فى الغرفة، كلهم ملثمون باللون الأسود وبلباس أسود، حتى الكفوف لونها أسود، ولا أحد تكلم خلال هذه الفترة أى كلمة».
لم يكن خالد المصرى يعلم أن هناك التباساً بين اسمه واسم أحد المطلوبين أمريكياً، مجرد تشابه بسيط فى الأسماء، ولم يكن يعلم أن هؤلاء الأشباح يمثلون فرقة من فرق السى آى إيه التى انتشرت فى أنحاء العالم تقتنص من تشاء فى إطار ما علمنا بعد ذلك أن اسمه Extra ordinary Rendition Program (برنامج الترحيل غير العادى)، كما لم يكن يعلم أنه الآن على وشك «الترحيل غير العادى» إلى قبو سحيق فى مكان ما، لا يعرف الذباب الأزرق سبيلاً إليه.
«هذا السجن تحت الأرض ودائماً ظلام. ظلام فى ظلام. يجعلونك تستمع فيه (من خلال مكبرات صوتية) إلى موسيقى من نوع خاص طول الوقت لمدة 24 ساعة فى اليوم، حتى هذه الأغانى باللغة الإنجليزية تشتم الله والرسول وتمدح أمريكا وإسرائيل، وبعدين يحطوا لغسيل الدماغ أشياء مثل (وِينُه الله؟ ومش شايفكم ليش؟ وليش ما يخرّجكم من هنا؟)».
لم يكن خالد المصرى يعلم أيضاً (وربما لم يكن ليصدق) أن طائرةً خاصة قد نقلته لمسافة تزيد على أربعة آلاف كيلومتر من مقدونيا إلى أفغانستان (لاحقاً أكد العلماء الألمان صدق روايته عندما حللوا عينات من شعره)، هناك ألقوا به إلى معتقل سرى داخل قاعدة باجرام العسكرية التى ورثها الأمريكيون عن السوفييت، وقاموا بتحديثها عام 2002، نعلم الآن، إنه لدى تلك النقطة من الزمن كان المعتقل يعج بهؤلاء الذين أُلقى القبض عليهم، سواءٌ داخل أفغانستان أو خارجها، فى أحلك فترات ما يوصف بالحرب على الإرهاب، لم يكن كثيرون يعلمون أيضاً أنه بحلول ديسمبر 2002 كان أفغانيان معتقلان فى باجرام قد لقيا حتفهما جراء التعذيب والض،رب المبرح على أيدى المحققين العسكريين الأمريكيين، وهو ما لم يحدث حتى فى جوانتانامو.
فى الوقت نفسه كانت أنظمة عربية قد فتحت أحضانها للفرصة الذهبية، فأمدت الأمريكيين بقوائم طويلة من «الأعداء المشترَكين»، نشطت أشباح سى آى إيه فاقتنصت عدداً كبيراً منهم، خاصةً فى دول غربية، وصدّرتهم إلى معتقلات تلك الحكومات، ومن أبرزها مصر وسوريا والأردن والمغرب. الروايات التى سمعناها عما حدث لهم فى تلك المعتقلات يقشعر منها البدن ويندى لها الجبين.
كان هذا نتيجة طبيعية لأجواء الأيام المائة الأولى التى أعقبت الحادى عشر من سبتمبر، أجواء الذعر والكراهية والانتقام والغرور التى نفخت فيها إدارة بوش الصغير قدر امتلاء بطونها بالهواء. إذا كنت تعتقد، مثلما كنت أعتقد أنا، عندما زرته ضمن وفد صحفى فى بداية عام 2002، أن جوانتانامو أسوأ المعتقلات، فإننى أدعوك إلى أن تفكر مرةً ثانية وإلى أن تقرأ كتاباً سيصدر الأسبوع القادم عن دار نشر Oxford University Press (أوكسفورد يونيفيرستى بريس) عنوانه: «The Least Worst Place: Guantanamos First 100 Days» (أقل الأماكن سوءا: الأيام المائة الأولى فى جوانتانامو).
مؤلفة الكتاب، كارين جرينبيرج، وهى أيضاً مديرة مركز القانون والأمن فى جامعة نيويورك، كرست حياتها مع فريقها فى المركز وزملائها وأصدقائها من خارجه، لفضح الأساليب غير القانونية لإدارة بوش ونزواتها منذ الحادى عشر من سبتمبر، فى هذا الكتاب ترسم صورةً حية للظروف التى أحاطت بتحول قاعدة عسكرية أمريكية لم نسمع بها من قبل إلى أشهر معتقل فى التاريخ المعاصر، وترصد الصراع الذى دار فى البداية بين ضباط القاعدة الذين أصروا على احترام القوانين الدولية، وفريق آخر من رجال المخابرات التابعين للبنتاجون.
انتصر الفريق الثانى كما نعلم الآن وتحولت الشفافية إلى ظلام وتحولت البروتوكولات العسكرية المتعارف عليها إلى انتهاكات فاضحة لإجراءات التعامل الأساسية وتحولت المعاملة القانونية والإنسانية للمعتقلين إلى غطرسة وتعذيب.
تلاحظ جرينبيرج أيضاً أنه منذ الإعلان عن بدء إجراءات تصفية جوانتانامو، بدأ سكان باجرام يتزايدون، وإن كنا لا نعلم عددهم تماماً ولا جنسياتهم ولا ظروف اعتقالهم ولا التهم الموجهة إليهم، إذا كان الرئيس الأمريكى الجديد عازماً حقاً على فتح صفحة جديدة ،تطرح عن بلاده عبء الانحطاط الأخلاقى والقانونى، فهذا هو الطريق: الشفافية القانونية، قولوا لنا مَن تعتقلون، وأين تعتقلونه، ولماذا؟ وجهوا له تهمة واضحة واسمحوا له بالدفاع عن نفسه أمامنا جميعاً، لعل العالم يحترمكم مرةً أخرى، اشطبوا كل المصطلحات البلهاء التى صكها دونالد رامسفيلد وشركاه، وامسحوا كل «القوانين» التى استحدثتموها باسم «الحرب على الإرهاب» فهى لا تعنى سوى أنكم ضعفاء لم تستطيعوا أن ترتفعوا إلى مستوى التحدى الأخلاقى والقانونى.
ليس المطلوب هو تصفية باجرام مع جوانتانامو فى آنٍ معاً وحسب، بل أيضاً محاكمة المسئولين عن الفظاعات التى حدثت فيهما، وفى أبو غريب، وفى معتقلات الأنظمة العربية بتشجيع مباشر من واشنطن، آخر ما يحتاجه أوباما وهو يحاول التخلص من هذا العبء الثقيل أن يُستخدم، كما استُخدم غيره، فى لعبة القط والفأر؛ فلا يزال فى واشنطن من يعتقد أنه «إذا لزم الأمر فدع الحثالة تقوم بدلاً منك بالأشياء القذرة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة