عفريت أول.. أتمنى لو أنساك
البيت ذو الطوابق الثلاثة يسكنه الهدوء، وبعض الأغنيات الخفيفة عن الحب تنطلق من حجرة سهير، التى تتقلب على جنبيها وهى تفكر بالذى وعدها بالزواج وأنه آت مع الأب والأم ليطلب يدها.
رفضت الأم أن تزوج ابنتها آخر العنقود لولد معه ليسانس آداب ويشتغل على توك توك، عبثاً حاولت سهير، لكن الأم وابنها الكبير المتزوج ويعيش فى القاهرة وابنتها المتزوجة والتى تعيش فى الإسكندرية، الجميع رفضوا بشكل قاطع أن تتزوج سهير الحاصلة على ليسانس آداب ولا تعمل من سائق التوك توك مع شهادته العليا.
انقطعت الأغانى من حجرة سهير وجسلت الأم وحيدة فى بلكونة الطابق الثانى وتحول الهدوء إلى صمت، إلى أن تحول الصمت إلى صراخ وضجيج ونار والعة فى البنت سهير التى أشعلت النار فى نفسها لتحترق لأنها لم تف بوعدها لحبيبها.
هرع الجميع لشقة أم سهير لكن بعد أن ماتت سهير محترقة، والحاجة أم حسن منعت الأم من إلقاء نفسها من بلكونة الطابق الثانى.
شعر السكان أن البيت تحول لمقبرة وتشمم آخرون رائحة جسد المسكينة سهير التى كان لها شعر أسود ناعم، وابتسامتها كانت للجميع أثناء صعودهم درجات السلالم أو النزول، شاركت أهل البيت بطوابقه الثلاثة فى أعياد الميلاد والأفراح بالغناء والرقص وأغنيتها المفضلة فى كل حال «أهواك» لحليم، حتى إن صغار البيت عندما يسمعون «أهواك» يصيحون: أغنية سهير.
وبدأت المشكلة مع هؤلاء الصغار الذين يصعدون السلم، وعند شقة سهير يجرون فى رعب وخوف وأحياناً يصرخون، لكن السكان أكدوا مخاوف الأطفال، إن من يحرق نفسه ويموت فعفريته لا يبرح المكان.
ازدادت المخاوف والتوهمات، يحكون ويطورون الحكايات: شفت بعينى سهير على درجة السلم الوسطانية تلبس فستان الفرح، مرت سهير بجوارى وأنا راجع من المقهى أمس أحسست كأن النار تلسعنى.
لم أعد أطيق الشقة فى الليل، لا أنام، صوت سهير يغنى بلا توقف أهواك أهواك وأتمنى لو أنساك.
عفريت سهير.. هكذا أصبح اسمه، هو الذى يخيف وهو الذى ينقل الأشياء فى الليل، وهو الذى يبث أغنية أهواك فى أى وقت، وهو الذى يتقافز على السلم ليل نهار، هو الذى يجرى خلف العيال.
فى ظهيرة يوم قائظ، عزلت أم حسن وزوجها وأولادها الصغار، وقالوا إنهم ينجون بأنفسهم من عفريت سهير.
بعدها بأسبوع واحد سحب الحاج أولاده وزوجته من الطابق الأول وأخذوا يصرخون أنقذونا من العفريت الذى لا يكف عن الدق والغناء طوال الليل، ومضوا.
لم يبق سوى أم سهير التى اقترح عليها أولادها أن يأخذوها معهم، لكنها رفضت، وظلت وحدها فى البيت تحلم بأن ترى سهير حتى لو عفريتا، أين عفريتها ولماذا لا يظهر لها، ربما فى السواد والحلكة، تطفئ كهرباء البيت فى منتصف الليالى، تنزل الدرجات بحذر وفرح أن تلتقى بابنتها أو عفريتها، تجلس على درجة السلم تبكى، ها أنا يا سهير.. اطلعى لى يا سهير.. شدى طرحتى.. أو خلى نارك تلمسنى.. أو جرجرينى على السلالم يا سهير.
سنوات طوال، مات فيها الابن الكبير، وتزوجت ابنة الابنة، وأم سهير وحيدة فى بيت بلا سكان تعض على شفتها السفلى وتبكى وتنتظر العفريت عبثاً.
عفريت ثان.. الطويلة النحيلة
أخيرا تركوها فى أمان بالمستشفى العام، العملية نجحت، وتستطيع وحدها أن تأكل وتشرب وتذهب لدورة المياه، فرحت، وفى كل صباح سترى ولديها الصغيرين والأب فى الزيارات.
فى ليلتها الأولى نهضت بحذر، وأمسكت بطنها ووضعت رجليها فى الشبشب، وابتسمت لجارتها العجوز النائمة على سريرها، الليل بعد منتصفه وكفت الزقزقات التى تحبها، حفيف الشبشب فى الأرض له صوت، دورة المياه آخر الطرقة، لا تبعد كثيراً عن حجرتها، واصلت فرحها بالمشى وحيدة، دخلت الدورة الخالية غير لمبة نيون وحيدة فى منتصف السقف تضىء كل الحمامات، سندت على حافة حوض المياه، فتحت الحنفية وبدأت فى غسل يديها، وجدتها واقفة صامتة بجوار الحوض المجاور، نحيلة جداً وطويلة أيضا ووجها النحيل يتميز بعينين واسعتين مدورتين، اندهشت السيدة لرؤية النحيلة فجأة وكانت الدورة خالية تماماً عند دخولها، قالت السيدة: مسا الخير، النحيلة لم ترد، وبعينيها الواسعتين المدورتين أخذت تتفحص السيدة بوجه بارد وصمت، واختفت فجأة أيضا، لعله الدوار هاجم السيدة، خافت من السقوط على الأرض فهرولت ممسكة ببطنها ورجعت حجرتها وارتمت على السرير.. فى الصباح طبطب عليها الزوج، قال الطبيب إن ضغط دمها مضبوط ودرجة حرارتها عادية وستصبح أفضل فى الليالى التالية.
فى الليل نام الجميع، وهى رأت أنها بحالة صحية طيبة ولا تشعر بدوار ونهضت ودخلت دورة المياه، وقبل أن تمد يدها لتفتح باب الحمام إذا بها ترى ذات النحيلة، وكانت عيناها الواسعتان أكثر احمرارا، تلعثمت السيدة وقالت: مسا الخير، النحيلة تبص فى صمت وجمود، لا ترد السلام، لا تتكلم، أدارت السيدة رأسها وخطرَ لها أن تسألها لماذا لا ترد، و أدارت السيدة رأسها باتجاه النحيلة فلم تجدها، حالاً اختفت، جرت السيدة، فى الطرقة الطويلة لم تجد أى أحد ولا النحيلة الطويلة، فيما الصمت يسود.
فى الليلة الثالثة حين وجدت النحيلة الطويلة فى انتظارها على باب دورة المياه بذات العينين الواسعتين، وبصمتها، جرت السيدة مرعوبة، ووقعت على الأرض، رفعت رأسها فلم تجد النحيلة، ولما سقطت على السرير كانت العجوز بجوارها تعلو شفتيها ابتسامة غامضة، لفت السيدة نفسها بالغطاء واستيقظت على ابتسامة الممرضة تهمس لها: عال عال.. الصحة طيبة.
سبع ليال وهى تلتقى بالنحيلة الطويلة فى أركان مختلفة فى دورة المياه، يصيبها الفزع وتختفى.
كتب لها الطبيب: خروج اليوم، لمت أشياءها فى كيس كبير: الحلة الصغيرة، والكنكة، والدورق والكوب وملعقة وجلبابان، ضحك زوجها عندما وجدها فى انتظاره جالسة على حافة السرير.
على باب المستشفى رفع الزوج يده ليوقف تاكسى السيدة استندت بوهن إلى البوابة باغتتها النحيلة الطويلة بعينيها الواسعتين وقالت للسيدة: صباح الخير.. أين شباك التذاكر يا أختى؟ ارتعشت السيدة وسألتها: ألم تدخلى المستشفى من قبل؟، ابتسمت النحيلة وهزت رأسها نفياً، أضافت: هى المرة الأولى، ولست من المحلة.
عفريت ثالث.. قطة عم سيد
من خلف باب الحجرة يتنصتون، بدهشة وفضول، هل جُن الرجل؟ تضرب جميلة على صدرها وتنفى بالقطع: لا.. أبداً.. سيد يكلم القطة.
القطة السوداء التى دخلت الدار ذات يوم ولم تخرج منها، قطة سوداء وديعة، لم يستطع أحد إزاحتها عن الدار لا بالزجر ولا بالضرب، وتمسحت فى ساقى سيد، وماءت بصوت رفيع به شجن، مال سيد عليها فقفزت فى حضنه، وقال سيد بحسم إن هذه القطة لن تخرج من داره طالما هو حى يرزق، وبقت القطة تتجول فى أنحاء الدار، تنام فى حجرة الزوجة، وتأكل من يد الأطفال، وتتمسح فى سيد وتقفز إلى سريره.
فى البداية قفزت بخفة وتمددت على استحياء، ثم تمرغت وانقلبت ونامت فى حضن سيد، ولا تنهض إلا بعد صحوة، وجميلة تطبطب عليها بالراحة وتبسمل فى كل آن، الولد الصغير «محمد» هو الذى يعلن عن رعبه وخوفه ويصرخ عندما يرى فى الليل عينيها اللامعتين المرعبتين، فيما الأربع بنات يضحكن ساخرات منه، وحل سيد الموضوع بأن وضع حجاباً تحت مخدة «محمد» لينام محمد قرير العين.
وانقلب النهار سواداً عندما دخلت جميلة فجأة على سيد فوجدته فوق السرير راكزاً على ركبتيه أمام القطة الملتصقة فى الحائط وسمعته يقول للقطة:
اسمعى كلامى.. لن يسكت أحد..
ضربت جميلة على صدرها، فانتفضت القطة وكأنما طارت من فوق السرير لتحط على الكنبة، واستغرب سيد فعل جميلة وقال: من يحمى الحيوان المسكين إذن!! ثم زعق فى الوجوه المتطفلة التى اقتحمت الحجرة: أعرف أن جميلة لن تسكت.. تخاف القطط والبوم.. لكن القطة مسكينة، تضربها بالمكنسة وبفردة الحذاء.. يا عالم حرام.
أهل الخير قالوا لجميلة: اتركيه فى حاله.. عندك عيال.
تركته فى حاله، وصارت القطة ذيله، وصار من المعتاد أن تسمع جميلة سيد وهو يكلم القطة:
الرضا بالحال محال.. وأحياناً هو خير حال.. وعلينا أن نسمع الكلام.. من ينافسنى فى السوق، ومن يشاركنى فى الدار.. وأنا عندى عيال.
ومن خلف باب الحجرة المغلق يتنصتون ويسمعون صوته الواهن:
ضاقت بى الدنيا.. هل يذهب كل إلى حال سبيله.. والعيال.. لو عندك عيال سترجعين حقاً لزوجك.. لو عندك عيال لن يظل الحال كما هو عليه الحال.
ولا يقطع الكلام سوى مقبض الباب يتحرك بحذر، أو طفل يقتحم الحجرة بلا استئذان.
وسمعته جميلة بأذنها التى سيأكلها الدود يشكو لقطته بصوت ذليل:
أنا تعبت وزوجتى تعبت.. وولدى وبناتى.. أخاف عليهم من غدر الزمان.. والقرش الذى يأتى يروح.
دخلت جميلة فسكت سيد وبحثت عبثاً عن القطة، ضحك سيد وضرب كفاً بكف وسأل: تبحثين عن ماذا يا وليه؟
ولما خرجت جميلة لوسط الدار كانت القطة فى حجر الولد يلاعبها وهو عرقان.
تتقافز القطة كما تتقافز الأيام، حتى جاءت ليلة العيد الصغير ودخلت جميلة حاملة على رأسها الحلة المملوءة باللبن، سيد حمل عنها الحلة ونزل على ركبتيه وركن الحلة باللبن تحت السرير، وعندما شال الغطاء نظر إلى اللبن وصلى على النبى ونهض، فرح الولد والبنات غير أن جميلة قالت: بكره الصبح.. رطل لبن نشربه.. ورطل لبن نخبز به الفطير.
ونام الجميع وسيد وجميلة فوق السرير طوال الليل، جميلة تحلم وسيد يشخر.
فى الصبح ضربت جميلة على صدرها ولطمت وصرخت، ذلك لأنها عندما شالت غطاء الحلة لم تجد اللبن، ولا قطرة لبن، بص سيد للحلة الخالية وللزوجة المرعوبة وللولد والبنات وهم يخفون ضحكاتهم وإلى القطة التى تجلس على الكنبة وتهز ذيلها، ثم همس لزوجته:
ولا كلمة.. ما حدث قد حدث.
وخرج لا يلوى على شىء.