د. جورج فريدمان مفكر ومحلل أمريكى متخصص فى الشئون الجيوسياسية والحربية وشئون الأمن القومى والمخابرات. هو مؤسس ومدير شركة الاستخبارات الخاصة ستراتفور المتخصصة فى تحليل الأحداث الجيوسياسية والاقتصادية فى العالم وإمداد عملائها بتقارير دورية. فريدمان ألف عدة كتب على مر السنين منها: "مستقبل الحروب وحرب أمريكا السرية" فى يناير 2009، قدم آخر كتبه تحت عنوان "المائة عام القادمة – توقعات للقرن الـ21" أو
The Next 100 Years
الكتاب لا يدعو إلى خطة معينة أو برنامج عمل ولا يوجه النصائح، لكنه يحلل القوى المؤثرة على الأفراد والدول والعوامل المقيدة لهم من الناحية الجيوسياسية ليتوقع تصرفاتهم ويتفهم النتائج غير المقصودة لها. يرى الكاتب أن موقع أمريكا فى النظام العالمى سيكون من أهم المسائل المؤثرة، بل إن أمريكا ستكون نقطة ارتكاز الأحداث فى القرن الحالى، كما كانت أوروبا من قبل. يقول الكاتب "هذا لا يعنى بالضرورة أن النظام الأمريكى يتسم بالعدل أو يستند إلى الأخلاق ولا يضمن أن أمريكا وصلت إلى مرحلة الحضارة الناضجة". من هنا نجده يصف خصائص المجتمع والشخصية والحضارة الأمريكية ويشخصها فى أجزاء من الكتاب، ويتوقع تصرفاتها خلال معالجتة لتوقعات القرن وخطوط التصدع فى العالم.
هناك اعتقاد راسخ داخل أمريكا أنها مقدمة على حافة الهاوية: حروب كارثية، عجز فى الميزانية بلا سيطرة، ارتفاع أسعار البنزين، إطلاق نيران فى الجامعات وفساد فى الحكومة والقطاع الخاص... إلخ. كل هذه الادعاءات على جانب من الصحة وتوحى أن الحلم الأمريكى تحطم وأن أفضل أيام أمريكا فى الماضى وليس المستقبل. الغريب أن كل هذة النذائر المتشائمة كانت موجودة أيام نيكسون! هناك خوف مستمر أن الازدهار والقوة الأمريكية وهمية وأن الكارثة قاب قوسين. هذا الشعور لا يرتبط بأيديولوجية معينة، ولكنه موجود بين المسيحيين المحافظين (اليمين) وأيضا النشطاء من أجل البيئة (اليسار). "لدينا شعور عميق بالنوستالجيا للخمسينيات - وقت البساطة". لكن التاريخ يذكرنا أن ما بين الحرب الكوربة والمكارثية فى ناحية والأحداث العنصرية فى ليتيل روك فى ولاية أركنساس فى الوسط وإطلاق السوفيت لأول قمر صناعى سبوتنيك وبرلين فى الناحية الأخرى والتهديد الحقيقى للحرب النووية، أن الخمسينيات كانت عصر القلق والتشاؤم العميق. وفى الخمسينيات، نظروا بنوستالجيا للسنوات الأسبق.
الثقافة الأمريكية مزيج مهووس من الغطرسة المتهللة والكآبة العميقة. المحصلة هى شعور بالثقة مقوضة دائما بالخوف: من الغرق من ذوبان الجليد نتيجة الاحتباس الحرارى، ومن عقاب الله نتيجة زواج المثليين "كلاهما مسئوليتنا الشخصية". هناك اتجاه للتهويل نابع من عدم اكتمال النضج. ثقافة أمريكا فى حالة تكوين. حتى الآن لم تتماسك بدرجة كافية. هى قوية العزيمة وتدفعها عواطفها فى اتجاهات مختلفة ومتناقضة. لها تصرفات خرقاء صريحة بلا لباقة قاسية بعض الأحيان، تبدو متهورة من وجهة نظر الدول الأخرى. تنفعل بسهولة، وينقصها المنظور التاريخى. فى نفس الوقت هذة الشحنة العاطفية تساعدها على التغلب على الصعاب. رد فعلها فى بعض الأحيان يزيد عما يجب و تبدو الأمور كارثية، مما يحفز الأمريكيين لحل المشاكل بحسم.
من الناحية السيكولوجية.. أمريكا خليط عجيب من الثقة الزائدة فى النفس والاهتزاز. وهذا هو الوصف الدقيق لمرحلة المراهقة. أمريكا تعانى من أزمة هوية فى مرحلة مراهقة ممتدة وفى نفس الوقت لديها قوى جديدة هائلة ومزاج متقلب بلا منطق. تاريخيا ..أمريكا صغيرة السن ولهذا فهى مجتمع غبر ناضج. فى هذا السن لا نتوقع من أمريكا إلا البجاحة واليأس معا. هل هناك طريقة أخرى للمراهق ليشعر بمكانته فى المجتمع؟ نستنتج أن أمريكا فى مرحلة مبكرة من قوتها ولم تكمل تحضرها. هى مثل أوروبا فى القرن الـ16 ما زالت بربرية (وصف وليس حكما أخلاقيا حسب قول د. فريدمان، ويقصد به المجتمع ككل وليس كل أفراده). فى مرحلة البربرية لثقافة الشعوب يعتقد أهل القرية أن عاداتهم هى قانون الطبيعة وكل من يخالفها يستحق الاحتقار ويحتاج إما إلى الفناء أو الخلاص. المرحلة التالية هى مرحلة التحضر كأوروبا فى القرن الـ18 و الـ19 حين يكون من الممكن أن يوازن المتحضر بين أفكار متناقضة، ويعتقد أنه يقترب من الصواب مع احتمال الخطأ وقليلا ما يحارب، ولكنه يحارب بكفاءة عالية. آخر المراحل هى الانحلال، حيث لا يكون هناك ما يستحق القتال من أجله ويوجد احتقار لمن له معتقدات راسخة.
فى بداية القرن تقلب المزاج الأمريكى يصعب من قدرتنا على تكوين تصور واضح لأمريكا. لكن الواقع أن أمريكا قوة مبهرة، يجوز أننا فى طريقنا لكارثة، ولكن من الصعب رؤيتها عندما تنظر إلى الحقائق. من الناحية الاقتصادية ما زال الناتج القومى الأمريكى يمثل حوالى ربع الناتج القومى العالمى وهو أكبر من مجموع الأربع دول فى المراتب الثانية للخامسة. صحيح أن هناك تراجعا فى التصنيع وخاصة فى صناعة السيارات والحديد والصلب، لكن ما زال قطاع التصنيع الأمريكى هو الأكبر فى العالم، أكبر من اليابان والصين معا.
هناك قلق من الاعتماد على مصادر الطاقة المستوردة وهو صحيح ولا شك أنه سيزداد، ولكن الواقع أن أمريكا تنتج حوالى 80% من إنتاج السعودية للنفط، وتنتج حوالى 80% من إنتاج روسيا للغاز الطبيعى. الكثافة السكانية لأمريكا ما زالت أقل من المتوسط العالمى وهى حوالى 10% من كثافة اليابان السكانية و15% من كثافة ألمانيا. الأرض القابلة للزراعة فى أمريكا (فدان للنسمة) خمسة أضعاف متوسط آسيا وثلاثة أضعاف متوسط العالم، أى أن هناك إمكانية كبيرة لنمو الاقتصاد الأمريكى.
هناك أسباب كثيرة للقوة الاقتصادية لأمريكا، ولكن أبسطها هى القوة العسكرية. أمريكا تهيمن على قارة يصعب احتلالها أو غزوها، بينما عانت تقريبا كل الدول الصناعية الكبرى من حروب مدمرة فى القرن العشرين. أمريكا اشتركت فى حروب وشنت بعضها ولكن لم تعشها. القوة العسكرية والواقع الجغرافى خلقوا الواقع الاقتصادى. بينما خسرت الدول الأخرى الوقت فى التعافى من آثار الحروب، أمريكا على العكس من ذلك استفادت من حروبها. رغم أنها قد تعانى من بعض الهزائم المهينة على السطح، نتيجة للاندفاع وعدم استخدام القوة العسكرية الكافية إلا أنها لا تحتاج للنصر الصريح دائما مثل احتياجها لإفساد خطة الطرف الآخر أحيانا ونشر حالة من عدم الاستقرار أحيانا أخرى. بالإضافة إلى الأسلحة الأخرى، اليوم قدرات أمريكا البحرية أكبر من القوات البحرية لباقى دول العالم مجتمعة. تسيطر أمريكا على محيطات وبحار ومعابر العالم بصورة لم تعرفها أية إمبراطورية فى التاريخ.
هامش الخطأ للدول هو محصلة لطبيعة المخاطر التى تتعرض لها الدولة ومقدار القوة التى تمتلكها لمواجهة هذه المخاطر. أمريكا لديها هامش واسع للخطأ، مما يجعلها أحيانا تتصرف بلا اكتراث. هى ليست غبية ولكن الحذر أحيانا يقلص من كفاءتها. أمريكا تتعامل مع العالم بعناد وذكاء وأسلوب غير ناضج. العالم يتعامل معها بالخوف والحسد والمقاومة مع ولعه بمنتجاتها المادية والثقافية. إذا كانت أمريكا فى مرحلة المراهقة، فمن الطبيعى أن مرحلة الرشد قادمة وهى عادة أكثر استقرارا وأكثر قوة. على عكس رأى كثير من المراقبين، يرى د. فريدمان أن أمريكا فى بداية صعودها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة