كان المترجم الشخصى للرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، أثناء زيارته التاريخية إلى الصين عام 1972، وكان سفير الولايات المتحدة الأمريكية فى الرياض أيام عاصفة الصحراء، وكان عقلا مدبرا للنظام الأمنى فى أوروبا لحقبة ما بعد الحرب الباردة.. اليوم يعتذر «كاس فريمان» عن عدم قبول رئاسة المجلس القومى للاستخبارات فى بلاده وهو يعتصر مرارة.. ينسحب من شرف خدمة رئيس يكن له كل احترام ويترك وراءه دخانا كثيفا ودرسا فى الوطنية وكلمتين اثنتين: «لوبى إسرائيل».
نظرة سريعة إلى السيرة الذاتية لهذا الرجل، مؤهلاته وتاريخه السياسى والأمنى والدبلوماسى، وقراءة متأنية لما يظنه به أصدقاؤه وأعداؤه فى آنٍ معاً تدفعانك إلى احترام رجل لم تره وربما لم تسمع به قبل اليوم. وتدفعنى أنا إلى أن أضع أمامك الآن ما قاله الرجل فى خطاب الانسحاب دون تدخل ودون تعليق:
«... لقد وصلتُ إلى قناعة بأن المحاولات المتطاولة لتشويه تاريخى لن تتوقف بعد استلامى ذلك المنصب، بل ستستمر جهود التلطيخ والنيل من مصداقيتى، ولا أعتقد أن المجلس القومى للاستخبارات سيتمكن من العمل بكفاءة بينما يتعرض رئيسه لهجوم لا يهدأ من جانب أناس انعدمت ضمائرهم مرتبطين أشد الارتباط برؤى فصيل سياسى بعينه فى دولة أجنبية. لقد كنت وافقت مبدئيا على رئاسة المجلس القومى للاستخبارات على أمل تعزيز دوره وحمايته من التسييس لا لفتح بابه أمام محاولات فئة ذات مصلحة خاصة للسيطرة عليه من خلال حملة سياسية مخطَّطة ممتدة.
... إننى لست من قلة التواضع بحيث أظن أن هذا الجدل يتعلق بشخصى أنا بقدر ما يتعلق بأمور السياسة العامة. وليس لهذه الأمور كبير علاقة بالمجلس القومى للاستخبارات ولا هى تقع موقع القلب مما كنت آمل أن أضيفه إلى جودة ما يوضع من تحليل أمام الرئيس أوباما وإدارته. غير أن ما يحزننى هو الحالة التى وصل إليها المجتمع المدنى لدينا التى انكشفت على ضوء هذا الجدل وطريقة النقد اللاذع من جانب هؤلاء الذين كرسوا أنفسهم لشنها واستمرارها. ومن الواضح أننا الأمريكيين لم نعد قادرين على إجراء مناقشة عامة جادة ولا على التعبير عن آرائنا المستقلة حول أمور فى غاية الأهمية لبلادنا ولحلفائنا وأصدقائنا.
إن محاولات التطاول على شخصى، التى يمكن رصد مصادرها بسهولة من خلال البريد الإلكترونى، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمة لوبى قويا مصمِّما على منع أى وجهة نظر غير وجهة نظره من الظهور. وتنحط أساليب اللوبى الإسرائيلى إلى أسفل درجات الخزى والبذاءة فتشمل اغتيال الشخصية والاقتباس الانتقائى وتعمد تشويه السجلات واختلاق الأكاذيب والتجاهل التام للحقيقة. إن هدف هذا اللوبى هو السيطرة على عملية اتخاذ القرار عن طريق ممارسة الفيتو ضد تعيين هؤلاء الذين يشككون فى حكمة آرائه وفى استبدال التحليل الموضوعى بمظاهر الصواب السياسى وفى استبعاد جميع الخيارات المتاحة أمام الأمريكيين وأمام حكومتنا سوى تلك التى يفضلها هذا اللوبى.
إن ثمة مفارقة لاذعة فى أن يُوجَّه الاتهام إلى شخصى بالاهتمام غير اللائق بآراء حكومات ومجتمعات أجنبية من جانب جماعة مصممة بما لا يدع مجالاً للشك على التأكد من الانصياع لسياسات حكومة أجنبية هى حكومة إسرائيل. وإننى لأعتقد أن عجز الشعب الأمريكى عن مناقشة وعجز حكومته عن الأخذ فى الاعتبار أى خيار للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط يعارض الفصيل الحاكم فى إسرائيل قد سمح لهذا الفصيل بتبنى سياسات تهدد فى النهاية وجود دولة إسرائيل نفسها. لا يُسمح لأى أحد فى أمريكا بالتفوّه بذلك. وإن هذه لا تعد مأساة للإسرائيليين ولجيرانهم فى الشرق الأوسط وحسب، بل إنها أيضاً تضر بشكل متصاعد بالأمن القومى فى الولايات المتحدة.
سينظر كثيرون إلى تلك الهوجة الوحشية التى أعقبت تسريب خبر اختيارى للمنصب باعتبارها تثير تساؤلات خطيرة حول ما إذا كانت إدارة أوباما ستتمكن من اتخاذ قراراتها المستقلة بشأن مسألة الشرق الأوسط والقضايا المتعلقة بها. وإنه ليؤسفنى أن استعدادى لخدمة الإدارة الجديدة قد انتهى إلى إثارة الشك فى مدى قدرتها على النظر فى أمر -ناهيك عن اتخاذ القرار بشأن- السياسات التى تخدم إلى أقصى حد مصالح الولايات المتحدة لا مصالح لوبى عازم ومصمِّم على تفعيل إرادة ومصالح دولة أجنبية».
واحد/صفر إذن نتيجة أولى المناوشات على الحدود بين لوبى إسرائيل وأوباما فى غرفة نومه. فرغم أن منصب رئيس المجلس القومى للاستخبارات لا يتيح لشاغله اتخاذ قرار فإنه يمثل فى معظم الأحيان ترساً حاسماً فى عملية اتخاذ القرار فى شأن الأخطار التى تتهدد البلاد أو مصالح البلاد وأولويات الأمن القومى الأمريكى بشكل عام. يأتى ذلك فى إطار تقارير تحليلية يضعها المجلس بصورة دورية وكلما نشأت الحاجة أمام رئيس الولايات المتحدة. نعلم اليوم أن هذا المجلس فى عهد بوش الصغير رفع للرئيس تقارير خرافية لوّنتها الأجندة السياسية للمحافظين الجدد ولوبى إسرائيل.
أن يوضع اليوم على رأسه رجل مهنى نظيف لا أجندة له سوى المصلحة العليا لبلاده لا لأى بلد آخر مسألة تدعو لوبى إسرائيل إلى القلق، وحين يحدث ذلك ينفتح كتاب يعرف فصوله كل الذين انتابتهم لحظة من لحظات الرومانسية الساذجة فوضعوا مصلحة بلادهم فوق مصلحة إسرائيل. من بين هؤلاء مايكل شوير الذى كان على رأس «وحدة بن لادن» داخل وكالة الاستخبارات المركزية، سى آى إيه، حتى سنوات قليلة مضت. بدأت «رائحته» تفوح من وجهة نظر لوبى إسرائيل فاضطر إلى ترك منصبه بعد 23 عاماً من الخدمة كأحد أعتى عقول الوكالة فى تحليل المعلومة. أما مصدر هذه «الرائحة» فقد عبر عنه أثناء لقائى به على شاشة قناة الجزيرة: «قناعتى الآن هى أن إسرائيل تجر الولايات المتحدة من أنفها، وأن الوقت قد حان كى نهتم بمصالحنا القومية نحن لا بمصالح دولة أخرى».
من جانبه يقول راى ماجافرن، الذى كان أحد أبرز محللى سى آى إيه لمدة 27 عاماً إنها «لمسألة غير مسبوقة أن يتمكن الصقور المؤيدون لإسرائيل من تخريب أحشاء مجتمع الاستخبارات بهذه الصورة». وكان هذا قد وقّع مع عدد من زملائه المخضرمين على رسالة بعثوا بها إلى مدير الاستخبارات القومية اختتموها بهذه العبارة: «إن رد الفعل على مسألة تعيين فريمان لهو كما يبدو بمثابة نذير لما سيأتى بعد ذلك».
هؤلاء فى أمريكا الذين يرفعون هذه الراية ربما يرفعونها من واقع وطنيتهم الصادقة وحرصهم على مصلحة بلادهم، لكنها وطنية تعادلها فى المقابل وطنيتنا ومصلحة تلتقى فى المباشر بمصلحتنا. ومع ذلك، لم يُنشر خبر واحد ولو صغيرا فى صحيفة عربية عن هذا الحدث الكبير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة