◄حرب المناظرات تبدأ بين أطفال المدارس وتنتهى بين النجار وبيشوى.. والصورة الخاطئة عن المسيحى تشعره بأنه مواطن درجة ثانية
«مشربش مية النصارى» عندما سمعت ماريان كلمات صديقتها المسلمة هبة لم تصدق أذنيها فى البداية، إلا أن شعور الدهشة تحول إلى حزمة من الألم بعد أن أدركت أن المبرر الوحيد لرفض صديقتها، رغم عطشها، أن تشرب من زمزميتها لأنها مسيحية أو «نصرانية»، الآن وبعد أن أتمت ماريان 23 عاما من عمرها، تتداعى تساؤلات عدة ممزوجة بالحسرة.. فمثلا لماذا يصر خطيب المسجد الكائن أسفل بيتها، أن يدعو كل جمعة «اللهم أهلك اليهود والنصارى وشتتهم عدداً وفرقهم بدداً» ألا يعلم أن هذا يؤذيها ويضر مشاعرها هى وإخوتها، لماذا دائما تنزعج عندما تسمع نفس الشيخ يوصى بالمعاملة الحسنة مع «أهل الذمة»، كم تضايقها كلمة «الجزية» حتى لو قيلت لمجرد الهزار، حتى جاراتها من المسلمات يمتنعن من المشاركة فى أعياد «النصارى» أيضاً، حتى عندما يتناصح جيرانها فيما بينهم «دكتور مسيحى بس ممتاز» لتتساءل عن التعارض بين أن يكون الشخص مسيحيا وممتازا فى الوقت نفسه.
مابين ماريان وهبة كان مجرد تفصيلة صغيرة تقودنا إلى خلاف أكبر تمثله حرب المناظرات التى اشتعلت بين الدكتور زغلول النجار والأنبا بيشوى، بدأها النجار بالحديث عن تحريف التوراة ومن بعدها الإنجيل مما اعتبره الأقباط تشكيكا فى العقيدة المسيحية، إلا أن وصفا ثقيلا من النجار للإنجيل بأنه الكتاب «المكدس» كان كفيلا بأن يتحرك الأنبا بيشوى ليرد على النجار، فى كتاب من ثلاثة فصول، الحرب العقائدية بين بيشوى والنجار، لا ينقصها سوى مشهد تليفزيونى لتصبح نسخة مكررة من مناظرات أحمد ديدات والقس جيمى سواجارت فى الثمانينيات من القرن الماضى، هذه المناظرات وغيرها هى مرآة عاكسة لما يحمله الأقباط من ضيق وانزعاج أحيانا يرقى إلى إحساس بالاضطهاد، من بعض المصطلحات والأفكار والكلمات التى ترد على ألسنة المسلمين أو تلك التى تحملها كتب التراث الإسلامى، باعتبارها مصطلحات لغوية قد تمر على سامعها مرور الكرام، إلا أن المسيحى يتعامل معها بخلاف هذا، فهى قد تضايقه أو تسىء إليه وأحيانا كثيرة تشعره بالإهانة.
«يعنى إيه عمرو بن العاص فتح مصر.. هى كانت مقفولة؟» هذا كان التساؤل الذى أطلقه الأنبا مرقص فى حوار سابق له مع اليوم السابع، فمصطلح الفتح الإسلامى على الرغم من أن دلالته أصبحت تاريخية فإنه يمثل للكثير من المسيحيين المصريين نوعا من الإساءة، فكلام مرقص نموذج صغير لما يدور فى صدور المسيحيين من ضيق تجاه هذه الكلمة، فغرف البال توك وبعض المواقع المسيحية استبدلت هذا المصطلح بآخر هو «الغزو الإسلامى لمصر» أو «الاحتلال العربى» وعلى الرغم من تطرف المصطلحين فإنهما يأتيان كردة فعل على الكثير من الفضائل التى يذكرها المؤرخون المسلمون فى كتب التراث لدخول العرب مصر، ولكى نفهم الجذور التاريخية لكره الأقباط لمصطلح الفتح الإسلامى لمصر علينا العودة إلى ما قاله المؤرخ اللبنانى جاك تاجر فى كتابه (أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى إلى عام 1922) ويقول فيه: «لم يستطع الأقباط قبول العرب كمحررين، ذلك لأن الغزاة يدينون بديانة أخرى، حقا لقد حرر العرب اليعقوبيون «المصريين» من نيران البيزنطيين، ولكن لم يكن اليعقوبيون يرتاحون لحكام آخرين عقيدتهم تخالف العقيدة الإسلامية، انتهى كلام تاجر غير أن ما فى الصدور لم ينتهِ، فليس من السيئ تجاهل لفظ الفتح من أجل المواطنة والمساواة، ولكن السيئ أن التطرف فى رفض المصطلح ووصوله إلى حد «الاحتلال» يعود إلى طرف النقيض لأن المسلمين أيضا يرفضونها، ففى فقرة أخرى يقول جاك تاجر فى كتابه «استن المشرع المسلم لأهل الذمة عدداً من القوانين استلهمها من تعاليم القرآن والحديث، غير أن الفقهاء لم يستطيعوا دائما فرض وجهة نظرهم على الحكام وكان هؤلاء يحيدون عنها كلما اضطرتهم ظروفهم ومصالحهم إلى ذلك» وهذا يعنى أن التعميم على إطلاقه خطأ فى هذه الحالة خاصة أن تاجر رمى بالكرة فى ملعب الحكام والسياسيين، فالكثير من أقوال الرسول ووصاياه تبين مكانة المسيحيين فى العقيدة الإسلامية، ولعل أبرز الأحاديث قوله (صلى الله عليه وسلم): «الله الله فى قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعواناً فى سبيل الله».
شجون الأقباط لا تقف فقط عند مصطلح «الفتح» فقط ولكن تمتد أيضا لتشمل كلمات مثل «الجزية، النصارى، الذميين، المسيح لم يصلب، تحريف الكتاب المقدس» وجميعها تنكأ جرحا غائرا عند المسيحيين حيث يتعدى بعضها حدود الإهانة إلى عدم اللياقة فما زال عالقا فى الأذهان ما ذكره الدكتور محمد عمارة عن إهدار دم غير المسلم فى أحد كتبه، ثم عاد ليعتذر ولكن بعدما ترسخت الفكرة ووصل معناها، فـ«الكفر» من أصعب المصطلحات تأثيراً وأكثرها ضرراً كما يوضح القس عبد المسيح بسيط راعى كنيسة العذراء بمسطرد، لأنه يرتبط بإهدار الدم، ففى رأيه «إذا كان المسلم يرى غيره كافراً فأنا أحترم هذا ولكنى أيضا أرى أن دينى هو الصحيح ولكن المسألة لا ترقى إلى إهدار الدم، فالإنجيل ليس به مايسمى «الكفر» ولكن اسمه «غير مؤمن بالمسيح»، أما فيما يخص باقى المصطلحات فيفندها بسيط قائلاً: إن «كلمة نصارى لا تشعرنى بالإهانة بقدر شعورى بأنها مفروضة على لأن القرآن حين ذكرها كان يقصد فئة معينة، فلا يصح أن نعممها على كل المسيحيين»، أما فيما يخص كلمة «الذميين» فبسيط يتساءل: هل يعنى هذا أننى على ذمتك أو فى حمايتك؟ هذا غير صحيح «لأننا إخوة وكلنا فى حماية ربنا، ولكن نحن مواطنون لا ذميون» ويستطرد بسيط قائلاً: إن كلمة «الجزية» رغم أنها نظام مالى ولكنها تشعرنى بأننى مواطن درجة ثالثة، ولكن تبقى خطورة كل هذه الكلمات تكمن، كما يقول، فى أنها فى النهاية تصب فى أمر واحد ألا وهو «الكفر».
هذا ليس رأى بسيط وحده ولكن يبدو أنه شعور مشترك لدى غالبية الأقباط. المحامى ممدوح نخلة أيد كلامه مؤكدا أن قاموس إيذاء المسيحيين يحمل فى ضفتيه العديد من الألفاظ التى يرى مرددوها أنهم على صواب لأنها لغويا لا تحمل أى إساءة، فمثلا كلمة كافر فى اللغة تعنى (من لا يؤمن بدينى)، كذلك كلمة ذمى ونصرانى ومشرك وأحيانا صليبى كلها ألفاظ تشعر المسيحى بأنه دخيل على مجتمعه وأنهم مواطنون درجة ثانية، ويطالب نخلة المسلمين بالتوقف عن استعمال تلك الألفاظ خاصة أنها ألفاظ اندثرت فى التراث اللغوى وحلت محلها ألفاظ أخرى تعطى نفس المعنى لكنها ليست ذات خلفية سيئة عند المسيحيين.
ليست وحدها الكلمات سببا للضيق عند الأقباط، الشائعات التى تؤخذ على أنها حقائق ثابتة بالتقادم هى الأخرى تدخل فى خانة الإهانات والتجريح، فحالة الفتى «هانى» المسيحى طالب الإعدادية مثال جيد، فهو لم يجد مبررا حتى الآن لإخراجه وزملائه المسيحيين من الفصل قبل بدء حصة الدين، فرغم فرحته بالتحرر من الحصة إلا أن وجودهم فى «حوش» المدرسة أو تحت السور يعطى شعوراً لم يعرف له وصفا فى ذاك الوقت، إلا أنه عندما كبر عرف أنه «المهانة» بأن تصبح منبوذا ولو مؤقتا، هذا أيضا لا يعنى أن تجبره على الاستماع إلى حصة الدين الإسلامى ولكن على الأقل وفر له بديلا يحترم اختلافه معك فى العقيدة، وبعيداً عن شعور «هانى» فإن المشكلة الأكبر هنا تتولد عند زملائه المسلمين، فأن تصبح طريدا فى حصة بعينها هذا يعنى أنك شاذ عن القاعدة بشكل أو بآخر ويصبح تعايشك معهم منقوصاً.
ولعل ما يرويه القس رفعت فكرى راعى الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف، مثالاً على ذلك حين يقول إن المفاهيم والأفكار الخاطئة عند رجل الشارع تجرحنى وتشعرنى بأننى مظلوم من الآخر، فمثلا حين يظن البعض أن المسيحى إنسان لا يغتسل «مبيستحماش» فهل هذا يليق؟، أيضاً حينما يشاع أن فى ليلة رأس السنة تطفأ الأنوار فى الكنيسة ليمارس الرجال الجنس مع النساء، فهل هذا صحيح ؟». كلام فكرى ينقلنا إلى خانة أخرى من الأخطاء الشائعة فالصورة الذهنية للأقباط عند البعض لم تخرج من إطار أن الآخر أقل شأنا طالما على النقيض، وهى صورة تنمو رويداً حتى تحتل بالكامل مساحة ما يعنيه هذا الآخر، وهذا أدعى للتساؤل حول مسببات تلك الصورة الخاطئة؟، الإجابة عند القس رفعت فكرى حملت شيئاً من الغضب فهو يقول «أنت حينما تكفرنى ليل نهار وتقول إن المسيحيين كفرة فى حين أننا جميعا نؤمن بإله واحد، ياأخى ده الفلاسفة المسلمين اختلفوا على كينونة الإله، بل وتزيد على ذلك بأن تنعتنى بـ«الذمى» وهى تعنى أننا ناقصو أهلية، فى حين أن الواجبات تتساوى فالمسيحى يؤدى الخدمة العسكرية مثل المسلم فأين نقص الأهلية إذن؟ أنت لا تدرى حجم الإحساس بالمرارة والاضطهاد والشعور بأنك تعيش فى غير بلدك، الأدهى من ذلك أنك لا تجد الفرصة لتوضيح وجهة نظرك، والكنيسة تتعامل مع مثل هذه الأمور بحكمة لأن التسخين فيها بلا شك يؤدى إلى ثورة».. فكرى أيضا كان يحملا جزءا آخر من الإجابة عن مضمون الإهانة فى كلمة «نصارى» فهو يوضح أن النصارى هم كانوا على دين اليهودية ثم آمنوا بعيسى، مضيفاً: «نحن لسنا نصارى لأن المسيحى ليس بالضرورة نصرانيا، فنحن لم نكن فى يوم من الأيام يهودا، ولا نحب أن يقال علينا نصارى».
تلك الصورة التى رسمها فكرى تنقصها تفصيلة صغيرة وهى أن الشارع فى حالات نادرة يكون بيئة جيدة لكشف باقى ملامح الصورة، فعندما يسير الأطفال فى الشارع وراء سيدة مسيحية بنداء مثل «الكنيسة وقعت والقسيس مات.. إخص عليك يا جرجس يا بتاع البنات»، أو عندما يتعلم طلاب فى كتب التاريخ بالمرحلة الإعدادية أن مسيحيى مصر لم يكن أمامهم عند دخول المسلمين إلى مصر سوى ثلاثة خيارات: إما الإسلام أو دفع الجزية أو الموت، وبعيداً عن الصحة التاريخية لهذه المعلومة فإن كلا من المثالين السابقين يكشفان لنا أن الترسبات الطائفية التى أفلتت من دائرة التعايش استقرت فى أجيال قادمة تكبر معها تلك الصورة المريرة التى تلبس رداء السخرية.
الألفاظ السابقة لا يتوقف أثرها عند ما تسببه للبعض من آلام، ولكن خطورتها تعود لما تمثله من وقود جيد للفتنة، وهنا التساؤل الأدعى كيف نتجنب هذه الفتنة؟ جزء من الإجابة يذكره المستشار نجيب جبرائيل رئيس الاتحاد المصرى لحقوق الإنسان، حين يؤكد أن علينا استخدام المتفق عليه لا المختلف عليه أو العبارات والألفاظ التى تحث على كراهية غير المسلمين، إضافة إلى أن تفادى الفتن يوجب علينا الربط فى العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بالابتعاد عن الحديث فى الأمور الدينية، وأن يعمل الجميع فى النهاية لتحقيق نظرية العيش المشترك.
ولكن طالما ظلت هذا المصطلحات موجودة بما تسببه من ضيق وأذى فيصعب العمل بنظرية جبرائيل عن العيش المشترك، إلا أن رأى المفكر القبطى كمال زاخر يذهب إلى أن الأهمية تكون لما وراء المصطلح لأنه فى النهاية مجرد منتج، ولم يعد ذا تأثير لأن كثرة التعامل بهذه الألفاظ أفقدها حساسيتها، ولكن ما يجب فعله أن نجفف منابع الفتنة التى تقوم بسبب هذه الألفاظ، وهذا لايتم سوى بمراجعة الإعلام والتعليم والمؤسسة الدينية نفسها لنؤسس دولة مدنية يكون الدين فيها أحد مكونات المجتمع وليس مرجعاً أساسياً للدولة، وفى النهاية يبقى الفكر يواجهه فكر أما الإساءة فتظل جريمة بعيدة عن نطاق الفكر أو الرأى جريمة.
وسواء كان الهدف هو الدولة المدنية أو على الأقل تحقيق العيش المشترك فإنه من الصعوبة بمكان أن يحدث هذا، والشعور بالاحتقان جراء هذه المفاهيم والمصطلحات متجذر وعميق، ولعل أصعب ما فيه أن الكثير من الأمور التى تسبب الضيق أو التى تشعل الفتنة، تقع فى المنطقة الرمادية حيث يصعب الفصل عند الناس العاديين بين ما هو ثابت عقائدياً وما هو متعارف عليه بالتراكم.
لمعلوماتك...
◄639 ميلادية دخول العرب بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر
◄12 مليونا.. عدد المسيحيين فى مصر وفقا لتقديرات البابا شنودة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة