الطريق إلى الإسكندرية، مسقط الرأس، فى سيارة تضم 14 من المسافرين على عجل عدا السائق، كانت غير مريحة، فالنائم على يسارى مرتديًا بدلة كاملة وربطة عنق وحذاء من العيار الثقيل اللامع، كما لو كان فى طريقه لتقديم مشروع مهم يحتاج إلى المظهر أولاً، ومحاولة الجالس على يمينى أن يشتبك فى الحديث مع مسافرة شابة والتى باءت بالفشل دون ملل من إعادة المناورة مرات ومرات بحديث غير متناسق عن جو اليوم فى الإسكندرية، أما المسافرون الثلاثة على المقعد الأمامى، وهم شابان وفتاة وعدد من الحقائب والأكياس البلاستيكية المكومة بجوارهم، فكانوا يتناوبون النوم والحديث فى ملالة تؤخذ فى الحسبان، مع محاولة الفتاة على إحياء الحديث بالمداعبة باليد مرة وبالهز مرات دون جدوى، ويجلس أمامهم وبجوار السائق رجل أربعينى يبدو مهمومًا ليمنح ابنته مقعد الباب والنافذة، وليظهر فظاظة بالغة فى حديثه المتقطع معها وكأنه يستكمل ما بدأه باكرًا فى البيت، وعلى المقعد الخلفى ورائى كان أربعة من الشباب يغطون فى نوم عميق مسموع، قد يكون محاولة لتعويض مافاتهم فى الليلة الماضية.
وهاهو كمين على الطريق وبنظرة سريعة على محتوى السيارة من مسافرين وحقائب من شرطى بدا خبيرًا فى عكننة البشر، أُخذت رخصة السائق بعد الركن على اليمين فى صف طويل من المعذبين فى الأرض ليُعطى بدلا منها ورقة طواها بعناية دون أن يعيرها انتباهًا ووضعها فى جيب قميصه الداخلى بعد أن رفع البلوفر وهو ينظر إلى الركاب قبل أن يصعد ليأخذ مكانه دون أن يشترك فى الحديث مع بعض الركاب الشباب قبل نومهم بالطبع، والذى دار حول السخط على ماتفعله الكمائن فى (عباد الله).
أخيرًا فى الإسكندرية، عروس البحر ولؤلؤته وذات الهواء والهوى السالب لألباب أهلها، خاصة بعد فراقها ليوم أو يزيد فما بالك بالسنين، فأنت سكندرى أكثر حين تفارقها، لتكون فيك كسِرٍ لايعلمه إلا المجربين، ففى مدن متوسطية كاللاذقية وطرطوس وأثينا وبيريه ونابولى، كمثال، كنت أنجذب بشكل ميكانيكى للجلوس أمام مقاهيها التى تحمل اسم "الإسكندرية" لأرى اسمها وأتسمّر فى مكانى كشاب يافع يتهيب دخول الغرفة لتحية ضيوف أبيه – وهذا ماكان يساورنى من رؤيتى لمجرد الاسم الذى طبعنا جوها على التسامح والحب ليعود ليشكل فينا ضميرًا يضم كل الاختلافات والمخالفات.
الجو فى الإسكندرية كما سمعت همس جارى المسافر بجانبى للفتاة المجاورة ينبئ عن مطر، وهو خيرٌ كما نعلم، ومطر الإسكندرية يستمر للعارف له أيامًا لاتتعدى الثلاثة، فيناير وفبراير هما شهرا الفيضات الصغرى والكبرى، وهذا يضفى طابعًا جميلاً على الشوارع الساحلية، والتى تخلو إلا من العاشقين والذين لاتؤثر فيهم مع الهوى الحار لسعة الهواء البارد، ولا صفعات الأمواج على خد الكورنيش لتصل إلى منتصف الطريق العريض، ويكون تعقيب الجميع على عبارتى: "إنها تُمْطِر!" دائمًا بالعبارة التقليدية: "كل سنة وأنت طيب!" وهذا ماسمعته اليوم عدة مرات.
السنون تمر ومازالت الذاكرة كما هى، وهذا مايميز القريب الغريب، فذاكرة المهاجر تتحجر لتقف على الأحداث التى تركها خلفه من الطفولة إلى الشباب، ورغم المساعدة على تليين هذا التحجر الذاكرى بمجموعة من الصور الحديثة أو المكالمات التليفونية لأعضاء أسريين جدد، إلا أن فرصة المرونة باتت ضعيفة. ففى السيارة وعلى الطريق أرى بيت زملائى الذين كانوا معى فى مراحل التعليم الأولى من ابتدائية إلى ثانوية، أى منذ مايزيد على الأربعين أو الخمسين عامًا، مع بقاء الشريط الحافظ لشكلهم أيامها هو الغالب على التفكير الآن، وأرى أيضًا هنا بجوار مستشفى الملكة نازلى، حين كنت وغيرى من الأخوة فى صحبة جدَّتى ننتظر لساعات طوال عبور موكب الرئيس جمال عبد الناصر إلى قصر رأس التين لنحييه لثوان قليلة فى عيد ثورتنا عام 1963، وهنا انتظرنا فريق الاتحاد، وهو فريقنا الوطنى كما يحلو للبعض التندر علينا، عائدًا بالفوز على الأهلى وبكأس مصر عام 1976، وهنا كان لقائى مع أحباء أعزاء عام 1977، وكل هذا يبدو وكأنها كانت أحداثًا وقعت اليوم لا الأمس البعيد، فما بالك بلقاء الأخوة الذين شاركتهم يومك الأول، أو ما أدراكَ بمشهد الوقوف أمام مقبرة العائلة بما تحويه من أحباب عمر وذاكرة سنين!
الشوارع الرئيسية فى الإبراهيمية - أحد أحياء الإسكندرية "الأفرنجية" كما كان يُطلق عليها سابقًا - أصبحت لمن يعرفها مثلى الآن كأى طريقِ آلام، فقد بلغ تشوهها حدًا جنونيًا وغير مهذب، فالمنازل الجميلة ذات الثلاثة طوابق، ناهيك عن الفيللات المميزة والجميلة التى كنا نقطف الورود من حدائقها طوال السنة، تحولت وبقدرة قادر (متسرطن ومتشيطن) إلى عشوائيات من عشرة طوابق فى حى مزدحم أصلاً ليصبح البناء فيه فقدان عقل.
كان صديق قاهرى قد صوّر لى الفرق بين الستينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة كالفرق بين ماقدمه كل من (عبد الحليم وشعبوله) لجمهورين مختلفين، وفى حى الإبراهيمية كانت السبعينيات ولا نقل الستينيات، مثالاً لهذا، ففى السبعينيات كان هذا الحى به دار سينما ومسرح وعدة مخابز ومحلات رائعة للبقالة، كانت كلها كعبد الحليم عصرها، تحولت كلها إلى مولات ومعارض للأحذية وبوتيكات شعبولية المذاق، وكأن الشعب قد أصبح ينتج خبز يومه فى بيته، أما عن الثقافة فقد انتقلت إلى رحمة الله والتليفزيون بمسلسلات تنشر أمراض الجهل والصبر على الفقر ومشيئة الأقدار وليصبح البيت بيتك.
فى محطة الرمل تولت أمطار الفيضة مهمة غسل الشوارع التى كنا نعاصر قيام عمال النظافة بها وكل ليلة كطقس من طقوس الطفولة فى الإسكندرية. وفى (ديليس) أرى الوجوه المألوفة لعمال المكان مريضة مجهدة لأسألهم عن ضيوف المكان من الأصدقاء والذين كانوا لايستغنون يومًا عنه ويعتبرونه بيتهم الثانى وكان منهم الكاتب والسياسى والمستشار والقانونى والشاعر والبحار والطلاب والمكتبجى وغيرهم، لتكون الأزمة المالية هى سر الغياب، ففنجان القهوة الذى كان ومازال مشروبنا المفضل قد ارتفع سعره منذ الغياب أربع مرات ليصبح الآن أحدى عشر جنيهًا بعد أن كان ثلاثة، وهنا وللأسف لم يعد البيت بيتنا.
وفى مكتبة (منشأة المعارف) حيث مازالت الكتب تُعرض على نفس الطريقة القديمة، كما لو أن عالم الكتب لم يتغير بعد، ومازال موظفوها البالغو الاحترام يكتبون رقم كل كتاب يُباع، وهو خماسى مرة وسداسى مرات، على ظهره حتى يصدروا فاتورة الشراء. وقد لفت نظرى عرض الواجهة للكتب التى تحمل عناوين تبدو مثيرة تحثنى على اقتنائها ومن بينها (تشريح الشخصية المصرية) و(أوجاع مصرية) ورواية (آخر يهود الإسكندرية) و(مذكرات أول سفير مصرى فى إسرائيل) وبإقتنائى لها وبتصفحى لها فى القطار المتهالك إلى القاهرة، بدا لى أنى قد أكون قد اشتريت سمكاً فى بحره، كما يقول المثل ولهذا حديث آخر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة