ظنى أننا سنرتكب خطأ فادحا إذا تعاملنا مع التطور الأخير فى قضية الرئيس السودانى بصدور مذكرة اعتقال بحقه بمنهج عاطفى أو ديماجوجى. وهو ما يبدو للأسف غالبا على كثير من ردود الفعل التى تداعت منذ صدور مذكرة الاعتقال.
لن أتحدث عن رد فعل المستوى الرسمى العربى الذى تحرك مؤخرا لاحتواء الأزمة، وإن كان سيتعرض فى سياقه إلى نقد تأخر وعجز المستوى الرسمى العربى عن تطويق أو احتواء أسباب الأزمة.
ما يعنينا بالأساس هنا هو تحرى منهج عقلانى وبراجماتى للتعامل مع القضية، التى يبدو أن العرب غدو معرضين لتكرارها فى المستقبل حسب أحوال وملابسات كل دولة وظروفها.
من حيث المبدأ لا أظن أنه من العقل الاحتجاج برفض مذكرة الاعتقال بدفوع من نوع أنها تمثل انتهاك لمبدأ السيادة المقرر فى القوانين الدولية، أو بأن رؤساء آخرين ارتكبوا ما يرقى إلى وصف جرائم الحرب ويجب أن يقفوا على قدم المساواة أمام القانون الجنائى الدولى، أو بأن عدم تصديق أية دولة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية يعفيها من المساءلة وفقا لمقرراتها وقوانينها وقواعدها والخضوع لها.
إن هذه الدفوع تخلص إلى نتائج مفادها أن عدم تحرى المحكمة الجنائية الدولية لمبدأ السيادة وعدم نزاهتها فى التعامل مع رؤساء الدول المشتبه فيهم على قدم المساواة وتجاوزها بإنفاذ سلطتها على دول لم تقرها وتشترك فيها، كل ذلك ينتهى إلى نتيجة مفادها أن صدور مذكرة الاعتقال معيب وأن وراءه مقاصد سياسية ومآرب اقتصادية.
لن نجادل كثيرا فى دوافع الحكم، لكننا سنتعرض إلى مدى براءة مطلقى هذه الدفوع من ذات التهم التى ينسبونها للغرب وللمدعى العام الذى أصدر مذكرة الاعتقال.
أما حجة انتهاك سيادة الدول فأحسب أنه قد بات علينا جميعا أن ندرك أن دولا لا تحترم مواطنيها ولا تمثل حكوماتها إرادتهم ولا تنتخب بشفافية وحرية من قبلهم هى دول بلا سيادة حقيقية، حيث إن ما سبق يعد انتهاكا مسبقا لفكرة ومفهوم السيادة. وعليه فإن الدفع بانتهاك مذكرة الاعتقال لمبدأ سيادة الدول، ومن ثم خضوعها فى صدورها لمآرب أخرى هو فى ذاته استغلال لفكرة السيادة غير المتحققة أصلا لمآرب أخرى تخص أصحاب هذا الدفاع. بمعنى أن الدفع بانتهاك السيادة لا يصدر من طرف يقدر ويحترم هذه السيادة، وإنما من طرف يسئ استخدام هذا المعنى لمآرب لا تقل فى عدم نزاهتها عن تلك التى يتهم بها الغرب ومدعى المحكمة الجنائية الدولية.
وأما حجة عدم نزاهة المحكمة التى طلبت اعتقال البشير ومثوله للمحاكمة، وتغاضت عن رؤساء ومسئولين آخرين مثل الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية جورج بوش أو قادة إسرائيل على مدى تاريخها وبالتحديد الذين خاضوا مجزرة غزة الأخيرة. هذه الحجة يرد عليها بمبدأ أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فليس معنى عدم قدرة المحكمة الجنائية الدولية إيقاف طائفة من الرؤساء والمسئولين ألا تفعل ذلك مع من يتسنى لها أن تطاله سواء بحكم ضعفه أو لأى سبب آخر.
كذلك أحسب أن علينا ألا نغفل أن القانون الإنسانى والفطرى يتجاوز ويرقى فوق أى قوانين وضعية، فالقانون الإنسانى لا يعفى من جريمة الحرب التى يمكن أن يتجاوز عنها قانون وضعى يوضع فى ظرف معين لخدمة غرض معين.
نستطيع بسهولة أن نطعن فى نزاهة مقاصد الغرب وراء دعاوى نشر الديمقراطية أو ملاحقة رؤسائنا، نعم هناك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية وثرواتنا ومواردنا التى يتهافتون عليها فى الخلفية، لكن السؤال الملح هنا هو: ما نصيبنا كشعوب من هذه الموارد والثروات؟ وبما عادت علينا من صور للتقدم والتنمية قبل أن يطمع فيها القاصى والدانى، وهل هى غنيمة الصراع بيننا وبين الغرب أم بين حكامنا وبين الغرب؟
هذا من حيث المبدأ، ومن حيث النظرة البراجماتية فعلينا أن نسأل أنفسنا: من المسئول الأول عن حالة الضعف التى كان من نتائجها قدرة القانون الدولى على النيل من أعلى مستويات الحكم فى بلادنا وعدم اكتراثه بمعانى المساواة فى عدم تعرضه لرؤساء دول أخرى تملك مناعة ضد قوانين المحكمة الجنائية الدولية.
لا أعتقد أن اثنين يمكن أن يختلفا على أن مسئولية هذا الضعف تقع على هؤلاء المسئولين أنفسهم، فما فعله الرئيس الراحل صدام حسين فى العراق كان تمهيدا وتعبيدا للطريق الذى انتهى بمشهد إعدامه المأساوى، وكذلك لا شك أن فشل وممارسات الرئيس السودانى على صعيد مسئولياته كرئيس للسودان فى معالجة قضاياها الداخلية كان تمهيدا لخضوعه لسطوة المحكمة الجنائية الدولية.
لعل المفارقة الطريفة الجديرة بالملاحظة هنا أن الرؤساء والمسئولين الذين نلوم القوانين الدولية على عدم قدرتها التعرض لهم ليسوا محصنين أمام قوانين بلادهم المحلية، فهم يمثلون لقوانين بلادهم كغيرهم من المواطنين، بينما رؤسائنا وكبار مسئولينا المحصنين داخليا ضد قوانيننا المحلية التى تحولت إلى أداة يتلاعبون بها وينتهكونها ولا يخضعون لها هم الذين تجد العدالة الدولية السبيل ميسرا إلى النيل منهم وإخضاعهم.
وجه آخر للمفارقة حملة الدعاية التى أطلقها النظام السودانى بعد صدور مذكرة الاعتقال من أنها – أى المذكرة – جاءت ردا على رفض الرئيس السودانى لمساومات غربية سبقت صدور مذكرة الاعتقال، كذلك قراره طرد منظمات الإغاثة الدولية العاملة فى السودان بدعوى أنها تمارس أنشطة مشبوهة مثل الجاسوسية.
هنا نحن أمام استخدام فج للدعاية الرخيصة واللامنطقية، والديماجوجية بامتياز، إذ علينا أن نسأل: لماذا كانت المساومات الغربية محجوبة عن الشعب السودانى صاحب الحق الأصيل؟ ولماذا أبقاها الرئيس السودانى طى الكتمان حتى صدرت مذكرة الاعتقال بحقه؟
كذلك علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا وكيف لم يكتشف النظام السودانى الأنشطة المشبوهة لمنظمات الإغاثة الدولية إلا بعد صدور مذكرة الاتقال؟ وكيف ولماذا سكت عليها قبل ذلك طوال ممارستها السابقة لعملها فى السودان؟
القضية هنا أبعد ما تكون عن الوطنية والنزاهة والشرف، وأبعد ما تكون عن القيم والمبادئ، ولا نتجاوز إذا قلنا إنها حتى فى الحد الأدنى لا ترقى إلى مستوى الذكاء المفترض.
أعتقد أننا كشعوب أمام طرفين لا ينبغى أن نفترض فى أيهما شرفا أو نزاهة أو ذكاء هو خلو منها كلها، طرفان يعبر ويصدر كلاهما عن مآرب فجة وأغراض واضحة.
فلا القوانين الدولية قادرة على إقناعنا بنزاهتها وتجرد مقاصدها، ولا قادتنا يملكون منطقا رصينا للدفاع عن أنفسهم.
لذلك أعتقد أنه إذا كانت التشريعات الدولية من حيث المبدأ تطورا مهما وإيجابيا فى مسيرة البشرية، فإن واجبنا كدول عربية تعانى مشاكل معقدة فى هذا العصر هى ألا نقف بتعقيداتنا وعقدنا أمام هذه التطور، وإنما أن ندرك ونستوعب الفجوة التى تفصلنا عنه، والسبيل إلى تجاوزها والوسائل والأدوات التى تضعنا فى تيار تطور البشرية بدلا من كوننا عثرة فى مساره.
إن الضمانة الوحيدة لعدم تعرض رؤسائنا للعرض على المحاكم الدولية بتهم ارتكاب تجاوزات فى حق الإنسانية وجرائم حرب فى حق شعوبهم هى ألا يرتكبوا هذه المخالفات والجرائم أصلا، وهم إذا لم يفعلوا وبادروا إلى تبنى منهج سديد فى إقامة وصيانة سيادة دولهم بكفالة الحريات والحقوق واحترام المواطنين، فسوف تتحول هذه الدول إلى دول قوية ذات حكومات منتخبة وأنظمة تتداول السلطة وتحترم القوانين، وبالتالى لن تستطيع دولة من الشرق أو الغرب أن ترتكب ضدها جرائم إنسانية أو تنتهك سيادتها أو تعبث بمصالحها، وإن تجاسرت وفعلت فعندها فقط نستطيع أن نرى مذكرة اعتقال تصدر بحق قادة أمريكا وإسرائيل.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة