هذه البطولة الموزعة على ثلاثة، يلعبون الدور ذاته، حيلة بارعة تحولت بها التجربة التى عاشها الكاتب، وكان يمكن أن تكون مادة شعرية إلى قصة لها أبطالها، وظروفها، وبدايتها، ونهايتها.
أصعب ما نواجهه ونحن نكتب أو نتحدث عن عمل أدبى, ألا يكون القارئ أو السامع قد اطلع على هذا العمل من قبل، خاصة حين نتحدث عن عمل لا يمكن تقديمه بنصه فى الحيز المتاح لمن يكتب، ولا يمكن طبعًا قراءته ونحن نتحدث عنه.
بوسعنا أن نعيد نشر بعض النصوص الشعرية ويمكن أن نرويها وننشدها، أما النصوص الروائية فهى أطول من أن تنقل أو تروى، وليس أمامنا إلا أن نلخص أحداثها، والتلخيص لا يكفى. لأن الرواية ليست أحداثا فحسب، ولكنها أمكنة وأزمنة، وشخصيات وتحليلات، وأبنية وتراكيب.
وبوسعنا أن نستشهد بنصوص من الرواية تدلنا على لغة الكاتب, أو ترسم ملامح من بعض الشخصيات، وفى هذا بعض الفائدة بلاشك، ولكنه لا يغنى عن قراءة الرواية كلها، خصوصا إذا لم تكن مجرد محاكاة لنصوص أخرى أو تذكير بها، أو مجاراة لبعض الأساليب الشائعة أو الرائجة، ورواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» على ما فيها من قدرة على الإمتاع رواية صعبة، بمعنى أنها غنية حافلة بالدلالات لأنها ثمرة موهبة فذة خلاقة لاتلجأ للسهل ولا ترضى بالنقل، ولا تكتفى بالممكن المتاح، وإنما تبحث عما بعده، كما يفعل الشعراء الكبار الذين لا يقنعون بالمعنى الظاهر المباشر، وإنما يطمحون لما بعده من معان ودلالات، يصلون إليها بلغة مركبة من الصور والرموز والإيقاعات.
أريد باختصار أن أنبه القارئ إلى أنى سألجأ مضطرا لتلخيص رواية الطيب صالح، لأوضح بعض ما رأيته فيها.
لكن هذا التلخيص لن يقدم الكثير للقارئ الذى أتمنى أن يكون قد قرأ الرواية من قبل، أو أن يدفعه كلامى عنها لقراءتها، حتى يستمتع بها من ناحية، ويفهم عنى ما أقوله فيها من ناحية أخرى.
وقد رأينا فى المقالة السابقة، كيف بدأت الرواية بعودة الراوى من بعثته فى إنجلترا، حيث درس الشعر الإنجليزى ليجد كل شىء على حاله فى قريته التى تركها فى أحضان النيل جنوب الخرطوم، الأهل، والشمس، والنهر، وشجرة الطلح، والجد برائحته الغريبة التى تجمع بين رائحة الطفل الرضيع ورائحة الضريح الكبير، والشيخ طه الفحل الباحث عن أرملة أو مطلقة يتزوجها، وبنت مجذوب التى تقترب من السبعين وتدخن السجائر وتشرب الخمر، وتحلف بالطلاق وتتحدث بصراحة عما كانت تفعل مع زوجها فى الفراش.
لكن الابن العائد يجد مع من يستقبلونه رجلا غريبا، يسأل عنه فيقال له هذا مصطفى سعيد. وهنا تبدأ الرواية بدايتها الحقيقية مع بطلها الحقيقى الذى قلت إن الراوى ليس إلا بديلا له، كما أن هذا البطل الحقيقى مصطفى سعيد، ليس إلا البديل الروائى عن البطل الفعلى الذى لعب دوره فى الحياة وهو الكاتب ذاته، الطيب صالح.
هذه البطولة الموزعة على ثلاثة، يلعبون الدور ذاته، حيلة بارعة تحولت بها التجربة التى عاشها الكاتب، وكان يمكن أن تكون مادة شعرية إلى قصة لها أبطالها، وظروفها، وبدايتها، ونهايتها.
لكن التجربة الذاتية ظلت رغم هذا التحول محتفظة بشاعريتها، لأنها خبرة ذاتية حية، ولأن الكاتب بدأ شاعرا وتحول إلى روائى يرى بعيون الراوى ويتحدث بلسانه، أو على الأصح العكس، فالراوى هو الذى يرى بعيون الكاتب ويتحدث بلسانه. وهكذا استطاع الكاتب أن يكون ذاتا وموضوعا فى وقت واحد، وأن يحول القصيدة إلى رواية، ويكتب الراوية بلغة القصيدة.
ولقد بدأ مصطفى سعيد حياته بداية غامضة، فهو لا يعرف أباه الذى مات قبل أن يولد، ولم يكن له إخوة، وكانت أمه بعيدة عنه كأنها امرأة غريبة. وقد انقطع عن ماضيه حين أخذه رجل غريب ليتلقى العلم فى مدرسة أنشأتها سلطات الاحتلال البريطانى فى السودان، لتخريج موظفين من أهل البلاد. ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بإحدى المدارس الثانوية، ومنها إلى لندن ليكمل دراسته فى جامعتها، ويعين محاضرا فيها وهو مازال فى الرابعة والعشرين ينهل من ثقافة الإنجليز، وينغمس فى حياتهم، ويتردد على منتدياتهم وحاناتهم، يقرأ الشعر الإنجليزى ويتحدث فى الدين والفلسفة، كان نهما لا يشبع، وقد جلب إلى فراشه فتيات من جيش الخلاص، ومن تجمعات الغابيين والجمعيات الدينية، وكان ينتظر المؤتمرات التى يعقدها الأحرار، والمحافظون، والعمال، والشيوعيون ليسرج بعيره ويذهب ليلتقط رزقه من بين المناضلات المتحمسات.
وفى قاعة المحكمة الكبرى بلندن حيث وقف متهما بقتل زوجته جين مورس، واجهه الادعاء بأنه فى بعض الفترات كان يعاشر خمس فتيات فى وقت واحد، وكان يعد كلا منهن بالزواج، وينتحل مع كل منهن اسما زائفا، فهو حسن، وتشارلز، وأمين، وريتشارد، كأن تنكره اعتراف بحقيقة يستشعرها، أو خطر يتهدده. فهو يرى نفسه مغتربا عن نفسه، منقسما عليها، بعيدا عنها. وإلا فما الذى بقى له من شخصيته القومية إلا اسمه ولونه؟
نستطيع أن نقول إن عنوان الرواية الذى يقابل بين الشمال والجنوب، تنويع على عناوين روايات أخرى كانت تقابل بين الشرق والغرب، منها عنوان رواية توفيق الحكيم «عصفور من الشرق»، وعنوان رواية يحيى حقى «قنديل أم هاشم» وهو استعارة يرمز فيها القنديل للشرق، وعنوان رواية سهيل إدريس «الحى اللاتينى»، الذى يرمز للغرب، فضلا عن بقية عناوين الروايات التى عالجت موضوع الشرق والغرب مثل «زينب» لهيكل، و«أديب» لطه حسين، وصولا إلى «محاولة للخروج» لعبدالحكيم قاسم، و«حب فى المنفى» لبهاء طاهر.
هذا الموضوع، وهو الشرق والغرب، موضوع أساسى فى الثقافة المصرية الحديثة والثقافة العربية التى نستطيع أن نعتبرها حوارا متصلا بين العالمين. لكنه، هذا الموضوع، يكتسب فى الرواية أهمية خاصة. فالرواية فن أوروبى نشأ فى العصور الحديثة، وإذا كان تاريخنا الحديث يبدأ مع بداية سعينا للحاق بالمجتمعات الأوروبية فالدعوة لكتابة القصة والرواية كانت فى جوهرها دعوة للاتصال بأوروبا والاقتباس من الحضارة الأوروبية، والنجاح الذى حققه الروائيون العرب فى امتلاك هذا الشكل الأدبى الأوروبى، وجها من وجوه النجاح الذى حققناه فى دخول العصور الحديثة، ومن المفهوم أن يكون هذا الشكل هو الأقدر على التعبير عن تجربتنا فى الاتصال بالأوروبيين، هذا الاتصال الذى نحاول فيه أن نقترب منهم، دون أن نبتعد عن أنفسنا، تلك هى التجربة العنيفة التى انتهت بأن قتل مصطفى سعيد زوجته جين مورس وعودته إلى السودان ليلقى بنفسه فى النيل. هل كانت نبوءة بفشل المحاولة؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة