محمود عوض

قبل تفكيك السودان

الخميس، 12 مارس 2009 10:23 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حينما يكتب مؤرخو المستقبل تاريخ منطقتنا فإنهم سيتوقفون طويلا أمام ما جرى فى الواحدة ظهرا بتوقيت جرينيتش فى لاهاى بهولندا يوم الأربعاء 4/3/2009، إنه مؤتمر صحفى، جرى تجهيز الكاميرات والميكروفونات ووكالات الأنباء ووقت محجوز بالأقمار الصناعية بهدف تصوير المؤتمر وتصديره فورا إلى العالم العربى تحديدا, والعالم الثالث تعميما، لقد أصدرت «المحكمة الجنائية الدولية» مذكرة تأمر فيها باعتقال عمر حسن البشير رئيس السودان، ليمثل أمامها متهما بارتكاب سبع جرائم حرب وقتل ضد الإنسانية فى إقليم دارفور بالسودان.

قبلها بأربعة أيام فقط، كان قد أعلن فى لاهاى أيضا قيام محكمة دولية خاصة للتحقيق فى مقتل رفيق الحريرى رئيس وزراء لبنان الأسبق.. لكن تلك قصة أخرى.

وفى الجزء الثانى من المؤتمر الصحفى بلاهاى خرج المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية ليعلن منتشيا، أنه سيسعى إلى القبض على رئيس السودان جوا، حينما يتجه إلى قطر لحضور مؤتمر عربى للقمة موعده معروف سلفا.

كان هذا تطورا فادحا وغير مسبوق فى الحياة الدولية من ناحيتين، فأولا: لم يحدث من قبل مطلقا السعى إلى اتهام ومحاكمة رئيس موجود فى السلطة, حيث لرؤساء الدول حصانة كاملة يكفلها القانون الدولى، وثانيا: كان إقليم دارفور تحديدا تتواجد فيه قوة مشتركة من الأمم المتحدة والاتحاد الافريقى من 15 ألف جندى للمساعدة فى حفظ الأمن بالموازاة مع جهود متصلة لتسوية النزاعات الدامية بين الأطراف المحليين للنزاع، ومعنى توجيه الاتهام لرئيس السودان على ذلك النحو الفادح، هو قطع الطريق على نجاح مفاوضات التسوية، بل إشارة مؤكدة للمتمردين ضد الحكومة السودانية بتصعيد تمردهم المسلح، ورفع سقوف مطالبهم.

ففى النهاية.. كيف يستمرون فى التفاوض مع نظام أصبح رئيسه مطلوبا للمحاكمة عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟
روسيا أعلنت أن هذه سابقة بالغة الخطورة فى الحياة الدولية، الصين قالت إن على مجلس الأمن إيقاف المضى فى هذا الذى يجرى. مجلس وزراء الخارجية العرب، أعلن نيته تشكيل وفد للتباحث مع مجلس الأمن لتأجيل تلك المحاكمة 12 شهرا.

الاتحاد الأفريقى أعلن السعى إلى استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف كل تلك الإجراءات التى جرى الإعلان عنها، ضد رئيس السودان، بالمقابل خرجت أصوات رسمية من واشنطن وباريس ولندن تعلق على ما جرى كما لو كانت تقرأ من نفس الصفحة فى خلاصة هى: على رئيس السودان أن يمتثل لأوامر »المحكمة الجنائية الدولية«.

وفى اليوم التالى زادت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية الأمر وضوحا بقولها إنه إذا كان رئيس السودان يعتقد بخطأ الاتهامات الموجهة إليه، فعليه أن يسلم نفسه إلى المحكمة أولا، وفى قفص اتهامها ستكون لديه الفرصة لإثبات وجهة نظره!

ضاع فى الزحام تعليق شخص مختص، طالما نتكلم عن مجتمع دولى وعلاقات دولية، هو «ميجيل ديسكوتو» الرئيس المنتخب للجمعية العامة للأمم المتحدة الذى قال، إنه كان يجب تأخير تلك المذكرة من المحكمة الجنائية الدولية من أجل السماح لمحادثات السلام - عن دارفور - بأن تتقدم، وتساءل: كيف للمحكمة أن تأخذ بأقوال عدد قليل من الناس لهم ماض مشكوك فيه، ومصداقيتهم ضعيفة ويدعون بأن معرفتهم بما يجرى فى دارفور أفضل من الاتحاد الأفريقى بكامله، وهو الذى له قوات منتشرة فعليا فى دارفور؟ إن هذا أمر مستغرب تماما.

فى الخلاصة قال هذا المسئول الدولى: «إننى أعتقد أن أسباب اتخاذ المحكمة لقرارها هذا هى اعتبارات سياسية أكثر منها سعيا إلى تطبيق العدالة فى العالم»، و: «هذا القرار سياسى ويمثل ضربة للعدالة الدولية وسيادة القانون ».

الملابسات المروعة هنا، لم تكن فقط فى تسييس عمل «المحكمة الجنائية الدولية» ولكن أيضا فى أن هذا كان واضحا منذ وقت مبكر، ففى 14/7/2008 مثلا وقف لويس مورينو أوكامبو المدعى العام للمحكمة، ليعلن تقريره الاتهامى الأول ضد الرئيس السودانى عمر البشير ومضيفا أنه سيطلب من المحكمة إصدار أمر بالقبض عليه، ولأنه كان مدركا بخطورة تلك الخطوة غير المسبوقة وبتناقضها الكامل مع قواعد القانون الدولى، فقد كشف تاليا أنه استبق ذلك بإخطار مجلس الأمن فى شهر يونيو، بأنه يعتزم توجيه الاتهام إلى الرئيس السودانى خلال شهر، وها هو قد فعل.

فى تلك الفترة كانت أمريكا وبريطانيا تصعدان من حملتهما ضد روبرت موجابى رئيس زيمبابوى باعتباره المسئول الأول عن أزمة الانتخابات هناك، وتقدمتا إلى مجلس الأمن بمشروع قرار كان الأول من نوعه ويقضى بفرض عقوبات على موجابى ومنعه من السفر مع تجميد أرصدته المالية، وفى جلسة التصويت واجهت أمريكا وبريطانيا استخداما مزدوجا لحق النقض /الفيتو من روسيا والصين لأن كلا منهما رأت أن القرار انتهاك لحصانة رئيس دولة ذات سيادة ،وتدخل فى شئونها الداخلية.

التحايل هنا فى حالة رئيس السودان كان بسيطا. فمجلس الأمن وافق سابقا، وفيه الصين وروسيا، على إحالة قضية دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق. ولأن المحكمة لا تملك آليات تنفيذية فإنها ستحتاج إلى استصدار قرار من مجلس الأمن لتنفيذ أى إجراء تقرره، المدعى العام طلب من المحكمة اتهام رئيس السودان بجرائم محددة وإصدار مذكرة باعتقاله ليمثل أمامها، وهذا هو ما يبدو أنه قد حدث.لكن هذا يذكرنا بقاض شهير فى روما القديمة كان يبدأ جلسته الأولى بقوله: جهزوا لنا حبل المشنقة حتى نبدأ فى محاكمتنا العادلة للمتهم!

المحكمة الجنائية الدولية نشأت أصلا خروجا على مبادئ مستقرة فى الحياة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، مبادئ بمستوى حصانة رؤساء الدول والاختصاص الأصيل للقضاء الوطنى.. إلخ، هذه المحكمة نشأت بموجب نظام أساسى سمى «نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية» اعتمدته ستون دولة فى روما فى 17/7/1987، طوال مراحل التفاوض لإنشاء المحكمة كانت أمريكا تحديدا هى صاحبة الجهد الأكبر لحشد تأييد الدول لصالح قيامها ثم شاركت فى التوقيع على ميثاق المحكمة لإقناع الجميع بأنها أول من سيخضع لهذا النظام المستجد كباقى الدول رغم تشكك الجميع فى أن الكونجرس قد لايصدق أبدا على انضمام بلاده إلى تلك المعاهدة.

وبالجهد الأمريكى المستمر أصبحت 108 دول منضمة إلى نظام المحكمة بعد انضمام »سورينام« التى يقل سكانها عن نصف مليون لكنها رسميا دولة ومن العالم الثالث شأن معظم من دفعتهم أمريكا للانضمام إلى نظام المحكمة.

المفارقة هى أنه مع وصول جورج بوش إلى السلطة بأمريكا فى يناير 2001 بادر بسحب توقيع بلاده على معاهدة روما تلك (وكذلك على معاهدات دولية أخرى)، وزيادة فى الاحتياط أبرم اتفاقات ثنائية مع نحو تسعين دولة تلتزم فيها كل منها بعدم تسليم أى مواطن أمريكى قد تطلبه المحكمة، بالإضافة إلى الضغط على مجلس الأمن استخراجا لقرار بعد قرار لاستبعاد المواطنين الأمريكيين من ولاية المحكمة الجنائية الدولية.

كان هذا حرصا إضافيا من أمريكا على الاحتفاظ لنفسها بحرية الحركة واستبعادا لأى قيود أو ملاحقات قانونية من الآخرين ضد من يرتكب جرائم من مواطنيها فى أى مكان بالعالم. مع ذلك فهى نفس أمريكا التى امتنعت عن التصويت على قرار لمجلس الأمن فى 31/3/2005 بإحالة ملف الأزمة فى إقليم دارفور بالسودان إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيما جرى هناك منذ 1/7/2002، وفيما بعد بدا امتناع أمريكا عن التصويت مقصودا حتى لا تكشف عن مصلحتها مبكرا فى التطورات اللاحقة، وأصبحت تلك الخطوة نذيرا بما هو قادم لأن السودان لم ينضم أصلا إلى معاهدة روما المنشئة للمحكمة بينما نظام المحكمة لا يلزم سوى الدول الأعضاء.

الأزمة فى إقليم دارفور بالسودان لها من الأصل جذورها المحلية ثم تفاقمت بفعل تنافس القبائل المحلية مع بعضها البعض -وكلهم مسلمون- على الموارد الطبيعية وأسباب الحياة إلى أن بدأت تخرج عن إطارها المحلى والإقليمى فى سنة 2003 لتبدأ دورة من العنف والعنف المضاد تزايدت مع تدفقات السلاح من حدود مع تشاد تصعب السيطرة الكاملة عليها.

وفجأة جرى تحول كبير فى الأزمة حينما تشكلت جماعات ضاغطة عديدة فى أمريكا نجحت فى استصدار قرار من مجلس النواب الأمريكى فى 3/10/2004 باعتبار ما يحدث فى إقليم دارفور «إبادة جماعية»، وفى حينها لم يكن هذا صحيحا فى رأى من ذهبوا إلى دارفور لتقصى الحقائق، الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر مثلا زار دارفور مع شخصيات دولية أخرى وأعلن فى حينها »هناك تعريف قانونى للإبادة الجماعية وهو لا ينطبق على ما يجرى فى دارفور«. هناك عنف وانتهاك لحقوق الإنسان وترويع للسكان وخطايا فادحة من السلطة ومن المتمردين. لكن كل هذا شىء.. والإبادة الجماعية شىء آخر.

مع ذلك بدأت تتصاعد الجهود لتدويل أزمة دارفور، وهى جهود فى أمريكا تحديدا حيث توالدت وتناسلت عشرات من جماعات الضغط وتحشد لها التبرعات والأموال منظمات يهودية وثيقة الصلة بإسرائيل.. بل أقام أحد أطراف التمرد بدارفور مكتبا له فى إسرائيل بينما ممثله يقيم فى باريس.

الآن أصبحت لدينا كل مكونات الأزمة، لدينا السودان بموارده المتصاعدة من البترول زائد المياه، ولدينا الصين القادمة من بعيد للحصول على البترول، ولدينا إقليم دارفور الثابت وجود كميات غير مسبوقة فى أرضه من البترول واليورانيوم، ولدينا فرنسا التى خاضت سابقا الحروب للنفاذ إلى تشاد بجوار دارفور، ولدينا قبل هذا كله أمريكا المتلهفة على بترول السودان وموارده وفى ذيلها إسرائيل كما هى العادة.

ثم.. قبل هذا كله وفوقه وبعده لدينا مصر.. التى يشكل السودان بابها وعمقها الجنوبى وأمنها المستقر، وحينما حاولت مصر مساعدة السودان فى تسوية حربه الأهلية فى الجنوب رفضتها أمريكا، ورفضت أمريكا أيضا أى دور لمصر، وليبيا، فى تسوية أزمة دارفور، وبصدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس السودان استيقظت مصر على فاجعتين من العيار الثقيل: فاجعة تحول تفكيك السودان من شبح بعيد إلى احتمال جاد، ثم فاجعة الدور الإسرائيلى فى هذا التفكيك فى جرأة وانتفاخ من إسرائيل غير مسبوقين بالمرة.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة