قبل أن أقدم شهادتى على ما جرى.. يلزم الاتفاق أولاً على عدة أمور فى مقدمتها أننا أصبحنا نعيش زماناً لا أسهل فيه من انتقاد الآخرين.. وبات من الممكن فيه أن يأتى أى واحد منا وبورقة وقلم أو ميكروفون وكاميرا ويحاسب الآخرين ويحاكمهم وفق هواه، فيجلدهم ويعاقبهم أو يمنحهم أوسمة الشرف والتقدير.. ويلزم الاتفاق أيضاً على أنه لا أحد فينا يمتلك اليقين المطلق أو الحقيقة الكاملة، فيصبح كل ما يقوله هو الصواب بينما الخطأ والعبث والضلال هو كل رأى مخالف.. وأخيراً يلزم الاتفاق على أنه هناك قضايا تواجهنا فتلزمنا بالاهتمام المشترك وبإدراك أن الوطن الذى نسكنه يأتى أولاً قبل أية اعتبارات أخرى وأية مشاهد جانبية ومصالح ومواقف شخصية أو ضيقة.
كان لابد من هذا التوضيح والافتتاح الضرورى لما انتويته من كلام، خاصة وأننى قررت أن أنتقد أداء الإعلام المصرى.. مكتوباً ومرئياً ومسموعاً.. فى تغطيته ومتابعته لحادثة الشروع فى تفجير المشهد الحسينى.. سواء كان إعلاماً رسمياً أو مستقلاً أو تابعاً لحزب أو جماعة.. ولا يأتى انتقادى هذا كمجرد استطراد ساذج وممل فى إطار هجوم دائم وكاسح على الإعلام المصرى شارك فيه الجميع مؤخراً، وكأن إعلامنا بات بحراً يغرى الجميع بالسباحة فيه دون أن يخشوا خطراً أو غرقاً.. وهو أيضا ليس محاولة للتميز وجذب انتباه الآخرين بالمضى فى طريق لم يمشِ فيه أحد من هؤلاء الآخرين.. وهو أخيراً ليس محاولة أخيرة.. تشبه محاولات كثيرة سابقة ومعاصرة.. ليس النقد فيها مجرد تعبير عن رأى مخالف.. أو سباق مشروع نحو الحقيقة والصواب.. وإنما يصبح صاحب النقد أشبه بعابر السبيل الذى جاء يدق أبواب من بيدهم القرار عارضاً خدماته طالباً وساعياً وراء أى دور أو وظيفة.
بعد كل ذلك.. أود أن أبدأ انتقادى لأداء الإعلام المصرى بكافة أشكاله.. ففور وقوع الانفجار.. أو الذى كان شروعاً فى تفجير المشهد الحسينى بأكمله.. جرى الإعلام يكاد يسبق الأمن يريد أن يعرف ويفهم.. فالصورة كانت غامضة وتفاصيل كثيرة غائبة والدلائل كلها مربكة ومقلقة.. صحيح أنه فى غمرة البحث عن حقيقة ما جرى.. لم يتمهل البعض قبل أن يشرعوا بجرأة يحسدون عليها فى تقديم التفسير الذى يوافق هواهم ويخدم مواقفهم.. وصحيح أنه لم يكن لائقاً أن يسارع البعض باتهام أطراف بعينها داخل الوطن أو خارجه قبل الوقت الضرورى والكافى للاستيضاح وللفهم وللتدقيق والتحليل.. إلا أن الإعلام فى مجمله كان فى المشهد الحسينى كأى إعلام آخر فى أى مكان فى الدنيا.. اهتمام وقلق واحتمالات لها هواجسها ومخاوف لها دواعيها.. وبالتأكيد ليس هذا الأداء محل أى تهام أو نقد.. ولكن بدأت أزمة الإعلام بعد أن انتهت أزمة الحسين.. ففى حساب خسائر البشر والحجر.. ثبت أن تفجيرات المشهد الحسينى ليست من النوع المروع الذى يغير ويبدل من صورة بلد ووطن.. وليست من الحوادث التى تتأثر بها السياسة ويدفع ثمنها الاقتصاد وتتغير بعدها الأيام ومعانى الحياة وأشكالها.. وبات من قبيل التعسف والتجنى أن توضع تفجيرات المشهد الحسينى فى قائمة واحدة مع حادثة الأقصر على سبيل المثال أو مع تفجيرات المتحف المصرى.. وسرعان ما اكتشف رجال الأمن ذلك.. واقتنع الباحثون والمفكرون والمتأملون والمتمهلون بذلك.. وأيقن الجميع أنهم أمام إشارة بمعاودة الفكر فى فكر بعد لم يمت ولا يزال يتشبث بأمل الحياة والعودة من جديد.. وباتت مواجهته تستدعى مراجعات حقيقية وليست أمنية للمجتمع بمن فيه من نفوس وعقول وظروف وتيارات وآفاق ورؤى وسياسات.. إلا الإعلام المصرى بكافة أشكاله وطوائفه.. إعلام لم يهدأ.. لم يجنح للعقل ولا للفكر.. إعلام رسمى كان موجوعاً بعد غزة فجرى إلى مسجد الحسين ليس مستعداً وليس قابلاً لمزيد من لوم أو عتاب.. وإعلام غير رسمى أحب أن يقود ويسود محاولاً استثمار مشارفة إعلام رسمى على الموات والشلل.. فكانت النتيجة صخباً بات يصعب تفسيره.. صفحات مطبوعة لا أول لها ولا آخر تعيد نشر حكايات وبقايا مما جرى فى المشهد الحسينى.. وشاشات رسمية وخاصة تتسابق لبث إرسالها من جوار مسجد الحسين تأكيداً إلى عودة الحياة إلى طبيعتها الهادئة وسيرتها الأولى الجميلة.. وكأن الحياة كانت قد توقفت أصلاً.. وبات المشهد لمن يراه من بعيد وكأن مصر تحركت أخيراً لتخوض حربها الأخيرة على الإرهاب.. وما لم تنجح قنبلة الحسين فى إثارته من اهتزاز لصورة مصر فى عيون العالم حولها.. نجح فى إثارته إعلام مصر وهو واهم أنه يقاوم الإرهاب ويقوم بدوره فى الدفاع عن صورة مصر وسيرتها.
ولا أعرف.. ولا أحترم أيضا.. إعلاماً ما إن يسمع كلمة قنبلة حتى ينتفض كله فجأة مذعوراً وخائفاً ليطيل الحديث فى سخف وإلحاح عن الإرهاب.. وكأنه لا فرق بين قنبلة وأخرى.. وبين حادثة وأخرى.. وبالتأكيد لم يتعلم هذا الإعلام من التغطية الإعلامية الأمريكية لتفجيرات سبتمبر وكيف اختلفت عن قنبلة أوكلاهوما التى اختلفت عن أى حادث آخر أقل فيمة القيمة والتأثير.. وتفجيرات مترو الأنفاق فى لندن حظيت بالتغطية التى تستحقها ولم تحظ بمثلها حوادث أخرى متفرقة شهدتها شوارع لندن وميادينها وقطاراتها.. فالإرهاب فى حد ذاته ليس مجرد القنابل وأسلحة الموت والتخريب.. وإنما هو التأثير الذى يمكن أن تخلفه هذه القنابل والأسلحة.. وفى أن يخاف الناس وترتبك حكوماتهم قبلهم.. هنا وهكذا ينجح الإرهاب.. وهذا بالضبط ما نجح به الإعلام المصرى بعد أن عمل بكل همة وحماسة ونشاط على أن يخاف كل المصريين أولاً من الإرهاب.. ثم نجح هذا الإعلام فى أن يقدم مادة صالحة للنشر وللاستخدام خارج حدود الوطن إقليمياً وعالمياً ليعود اسم مصر يرتبط بالإرهاب من جديد.. وبالتالى فإن القنبلة التى انفجرت فى الحسين منذ أيام.. لم تعد تستحق التوقف والاهتمام والانزعاج.. وإنما هى الألف قنبلة التى انفجرت فوق صفحات الصحف وشاشات التليفزيون.. وليصبح الإرهاب فى مصر سنة 2009.. هو باختصار.. صناعة إعلامية.
ياسر أيوب يكتب: إرهاب المشهد الحسينى.. صناعة إعلامية
الأحد، 01 مارس 2009 01:31 م
هل كان أداء الإعلام فى تغطية تفجيرات الحسين على المستوى المأمول؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة