لا يمكننى أن أقرأ مشهد مغادرة رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركى لمنتدى دافوس الاقتصادى بعد مشادة كلامية مع الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز دون أن ننظر إلى السياق العام للعلاقات التركية الإسرائيلية، فلقد انبرت الكثير من الأقلام لترفع أردوغان لعنان السماء على أكتاف الهمم العربية المحبطة، بالطبع كل تقديرى وشكرى لأردوغان، ولكن ما يشغلنى هو كيف يمكن قراءة ذلك التوتر فى العلاقات التركية الإسرائيلية.
فالعلاقات السياسية بين الجارتين المتوسطتين قوية وراسخة منذ خمسينات القرن المنصرف، فتركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949، وعلى مدار القرن العشرين كانت علاقاتهما قوية بفضل استمرار التيار العلمانى من جهة وقوة المؤسسة العسكرية من جهة أخرى.
لقد دخلت العلاقات التركية ـ الإسرائيلية مرحلة جديدة من التعاون الإستراتيجى مع توقيع الدولتين اتفاقاً للتعاون العسكرى فى فبراير من العام 1996، وما تلاه من اتفاقيات مكملة له. كما يشهد المجال العسكرى تبادلاً للخبرات العسكرية التكنولوجية وعقد مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة. فضلاً عن علاقات اقتصادية مشتركة بين الجانبين لعل أبرزها فى مجالى الماء والطاقة.
إذن تركيا لا تنظر إلى إسرائيل من منظور الصراع العربى الإسرائيلى الضيق، فلا هى عدو ولا حبيب، ولكنها علاقات برجماتية بحتة تعتمد على المصلحة المشتركة وأكبر قدر من الاستفادة لطرفيها، سواء على المستوى العسكرى أو الاقتصادى، وخاصة أن الطرفين ينظران بعين الريبة إلى جار مشترك، وهو سوريا وعين الطمع إلى جار مريض هو العراق.
فى ذلك السياق يمكننى أن أبدأ الحديث عن الطيب رجب أردوغان كما سماه البعض، ومواقفه السياسية القوية تجاه الحليف الإسرائيلى أثناء محرقة غزة الأخيرة، فأردوغان بدا ثائراً ومنتقداً قوياً للأفعال الهمجية الإسرائيلية فى غزة، وخاطب حكام إسرائيل بقوة وتحدث عن أنه حفيد للدولة التى آوتهم حين طردهم الآخرون، ظهر أردوغان نشطاً قائداً لدبلوماسية نشطة فى أثناء الأزمة، فطاف المنطقة ساعياً لتنسيق المواقف العربية لوقف إطلاق النار، وكان تحركه سباقاً على أدوراً عربية أخرى. فحفر بذلك لتركيا دوراً إقليمياً بارعاً فى المنطقة يقوم على أسس دينية مشتركة وأهداف سياسية علمانية. وهو درس تركى للعرب جميعاً فى كيفية صياغة الدور الإقليمى وحشد التأييد له وكيفية مزج مبادئ الدولة مع سياساتها الخارجية، فتبدو سياسة مستقلة وأصيلة.
ما ساعد أردوغان على احتلال الساحة الدبلوماسية والإعلامية، هو انحسار أدوار البعض واتهامهم من قبل آخرين بالتخاذل وانقسام العرب بين قمم ثلاث ومبادرات عدة. بينما كان هو يخطب لا باسم الدين أو السياسة، بل باسم الإنسانية الممتزجة بخلفية إسلامية قوية وسمات سياسى بارع، مما ساعده على اجتذاب ملايين العقول والقلوب فى الشرق الأوسط.
ثم جاء المشهد الأقوى تأثيراً حين انسحب من منصة منتدى دافوس بعد أن شعر أن الرئيس الإسرائيلى يرفع صوته فى حديثه إليه، ما أغضب أردوغان لم يكن حديث بيريز نفسه أو المجازر التى ارتكبتها إسرائيل، لأن لو صح ذلك، لما جاوره مباشرة على نفس المنصة التى انسحب منها.
ما اغضب أردوغان ثلاث، أولاً، طريقة الخطاب غير الدبلوماسية فى وجه رئيس وزراء لدولة إقليمية يعتد بها كتركيا، وليس رئيس قبيلة كما صرح أردوغان لاحقاً، ثانياً عدم إعطائه نفس وقت بيريز فى الحديث أو فرصة الرد على كلامه، ثالثاً عدم تطوع عمرو موسى ممثل العرب للرد!! لذلك خرج محتجاً عائداً إلى بلاده أما الحديث عن أنه بطل وطيب واجه بيريز وأسقطه أرضاً، فهو لا يزيد عن تخاريف صيام فى غير شهر الصيام!!.
فالعلاقات التركية الإسرائيلية ستبقى قوية وحيوية، لأنها بين طرفين يدركان قوة بعضهما البعض ويدركان مصلحتهما المشتركة فى استمرار علاقتهما. إن ما يحدث لا يعدو كونه اختلافا حول قضية سياسية ذات طابع إنسانى وحول طرق التعاطى السياسى معها. وهو درس تركى لنا، مفاده أن العلاقات المشتركة لا تمنع حدوث اختلاف وتوتر بين أطرافها، لأن الاختلاف سمة علاقات الأقوياء بينما التطابق والإذعان سمة العلاقات غير المتكافئة.
وثمة مؤشرين يعضدان استمرار العلاقات التركية الإسرائيلية، فأردوغان صرح فور وصوله لاسطنبول "لا نريد الحماس والمشاعر أن تدفعنا لاتخاذ إجراءات منفعلة مع إسرائيل"
بينما كان رد بيريز واضحاً "مثل هذه الأشياء تحدث بين الأصدقاء، وأنا أشعر بأسف شديد مما وقع، وأود أن أؤكد قبل كل شىء أن احترامى وتقديرى تجاه الجمهورية التركية وتجاه شخصكم كرئيس وزراء لن يتغير فى أى وقت" .
بينما يقف العرب مهللين مكبرين، فنجم غير عربى جديد قد ارتقى قائمة المدافعين عنهم وعن قضاياهم بعد أن حجبت عن نفس القائمة الأسماء العربية منذ بداية القرن الحادى والعشرين!!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة