أهم ما حققه الفيلم البريطانى "المليونير المتشرد"، والذى تدور قصته حول انتقال صبى ينتمى إلى إحدى ضواحى مومباى من الفقر إلى الثراء، أنه ركز أنظار الجمهور على "دهارافى"، أكبر حى للفقراء فى مومباى، العاصمة المالية للهند.
وقد جعل الفيلم، الذى نال عدة جوائز وترشح لعدد من جوائز الأوسكار، من هذا الحى الذى يعانى من حالة مزرية ويقوم على دماء وعرق أبنائه، نقطة جذب محورية يرغب كل من شاهد الفيلم أو سمع به فى التعرف عليها. وعليه، سنحاول رسم صورة الحياة داخل هذا الحى الفقير، الذى يضم بين جنباته هندوسا ومسلمين ومسيحيين وبوذيين، وغيرهم من أبناء ديانات أخرى يعيشون جنبا إلى جنب، فى مناخ عام يسوده السلام. وحسب الإحصاءات، فإن المسلمين يشكلون 40 فى المائة من سكان حى دهارافى. ويتألف الحى من مجموعة من الأحياء الممتدة فى صورة تشبه شكل القلب، ويشتهر المكان اليوم بكونه "أكبر أحياء آسيا الفقيرة".
ابتسامات بريئة، وروائح، وأزقة بالكاد لسيارات الأجرة
ظلت الصناعات الجلدية هى السمة المميزة لحى دهارافى، إلى أن تقرر إغلاق المدابغ بسبب التلوث. إلا أن المدينة ظلت لا تنام أبداً. حركة سيارات الأجرة لا تهدأ وخاصة فى الليل حيث يأتى سائقوها فى فى وقت متأخر لحشرها فى ممراتها الضيقة بشوارع الحى. أما من لا يملكون سيارات فيعودون بعد منتصف الليل، حيث انتهت للتو نوبة عملهم فيلتقطون ساعات قليلة من الراحة قبل معاودة الكرة مرة أخرى إلى العمل فى الخامسة صباحا.
عندما تدخل "دهارافى" فلن تحرمك وجوه الأطفال الباسمة من استقبال دافئ، على الرغم من أقدامهم الحافية، والدمى الرخيصة التى تكسرت أعضاؤها من القدم وشقاوة الأطفال. وفى الخلفية ستتقافز الفئران كعادتها، فقد الفت البشر، ولم تعد تخشى ضوء النهار. وبما أنك جديد هنا فقد تضايقك قليلاً الروائح الكريهة التى تنبعث من أماكن خفية وظاهرة، ومن شدة اختلاطها سيصعب عليك تمييزها.
تدوير القمامة كنز دهارافى
"دهارافى" ليست كما يبدو لك من الوهلة الأولى، إنها حى مهم رغم كل ما يعتريه من روائح وأقدام حافية ووجوه بريئة وأزقة بالكاد تكفى سيارات الأجرة. الأنشطة التجارية الأهم فى هذا الحى، تتضمن صناعات إعادة تدوير النفايات ودبغ الجلود والأعمال المعدنية الثقيلة والصناعات الخشبية والسلع المصنعة، كالملابس والأحذية والأمتعة والحلى. وبهذه الصناعات البسيطة تخدم دهارافى كافة أرجاء مومباى، وتفيض إلى السوق العالمية أيضاً.
وإذا غرك الفقر والاكتظاظ والصخب فى دهارافى فلا تندهش حين تعرف أن القيمة السنوية لما ينتجه أهل الحى بالكثير من العرق، والكثير من الرضا تبلغ مليار دولار أمريكى. ويعمل بصناعة إعادة التدوير بالحى ما يزيد على 250000 شخص، منهم 100000 شخص يفدون على المنطقة ويخرجون منها بصورة يومية.
هذه المليارات بالتأكيد لا تذهب إلى الظهور المحنية التى تصادفها فى كل كوخ تعمل على أكوام من بطاريات السيارات أو أجزاء من الحواسيب، أو المصابيح النيون، أو الحقائب البلاستيكية أو الورق. فأهالى دهارافى منظمون جداً ومرتبون جداً رغم كل ما قد يبدو لك من مشهد عبثى. فهم يدورون القمامة ويعرفون أين توضع كل قشة وكيف تستخدم. بوجه عام، داخل دهارافى ليس هناك ما يدعى نفاية لا قيمة لها، فعلى سبيل المثال، يتم وضع الدمى البلاستيكية المحطمة فى أجهزة طحن كبرى، حيث يتم تقطيعها إلى أجزاء بالغة الصغر، ثم تُصهر وتوضع فى قوالب مستديرة متنوعة الألوان، وبذلك تصبح مهيأة لإعادة استخدامها فى صنع العرائس.
أجهزة فيديو، وبقايا صابون، وخيوط جراحية
لذا فإن أصغر غرفة بالمنطقة لا تخلو من موقد طهى يعمل بالغاز، ووصلات للطاقة الكهربية. فسكان دهارافى يملكون أجهزة تلفاز ملونة، وصلات لقنوات فضائية، ويملك بعضهم أجهزة فيديو أيضاً.
وتتضمن الورش القائمة بالمنطقة كل شىء يمكنك تخيله، بداية من أجهزة صهر الألمونيوم التى تعمل على إعادة تدوير العبوات المعدنية للمشروبات الغازية، وحتى التعامل مع أوعية ضخمة من فضلات الصابون التى تم جمعها من العبوات الملقاة مع مناطق جمع النفايات والفنادق المحلية. ومع التجول داخل دهارافى التى تضم بين جنباتها 1500 مصنع مؤلف من غرفة واحدة، تتولد لديك صعوبة فى تخيل وجود أى شىء لا يجرى تصنيعه أو إعادة تدويره هنا.
حين تمر بحى دهارافى لا يفوتك صناع الصابون الذين يعكفون على إعادة معالجته بعد جمعه من الفنادق والمستشفيات. وداخل الكثير من الغرف ستجد رجالاً يتصبب العرق من أجسادهم، بسبب الحرارة الصادرة عن أحواض معدنية ضخمة تمتلئ بسائل أخضر يميل لونه إلى الاصفرار. فبداخل تلك الغرف الصغيرة وربما القذرة، يجرى صنع الخيوط المستخدمة فى العمليات الجراحية. المهمة الرئيسية للعمال فى هذه الغرف تنظيف أمعاء الماعز ومعالجتها بماء مملح، ثم تجفيفها وإرسالها إلى شركة جونسون آند جونسون لتمريرها عبر المزيد من عمليات المعالجة، وأخيرا إنتاجها فى صورة خيوط جراحية.
هاهنا ولد مليونير أوسكار
هنا إذاً ولد "المليونير المتشرد" المرشح لأكثر من عشر جوائز أوسكار. ويحكى الفيلم عن "جمال مالك" اليتيم الذى يبلغ من العمر 18 عاما، ويعيش فى هذا الحى من مومباى، وهو لا يعلم أنه على وشك أن يعيش أكبر وأفضل يوم فى حياته القصيرة عندما يشترك فى برنامج "من سيربح المليون" الذى تشاهده الهند بأكملها، ولا يبقى سوى سؤال واحد فقط يجاوبه ويحصل على 20 مليون روبية. ولكن مع حلول الليل، تلقى قوات الشرطة القبض عليه للاشتباه فى أنه غش أثناء البرنامج، فليس من الطبيعى أن يعرف طفل فقير يعيش فى أفقر الأحياء هذا القدر من المعلومات. ولكى يثبت براءته، يبدأ "جمال" فى سرد قصة حياته فى الحى الفقير الذى ترعرع فيه هو وأخيه سالم، ويحكى عن مغامراته معه على الطريق، وكيف واجه رجال العصابات الأشرار بمهارة، ثم يخبرهم عن حب حياته، "لاتكا" الفتاه اليتيمة التى أحبها ثم فقدها.
السؤال الصعب
ويكشف الفتى "جمال" خلال كل فصل من فصول القصة التى يرويها كيف استطاع الإجابة على جميع أسئلة البرنامج، التى لا يستطيع الإجابة عليها سوى كبار السن والمتعلمين والأثرياء. ومع ذلك، يحيط بسؤال واحد كثير من الغموض: ماذا يفعل شاب صغير لا يبدو أنه يرغب فى تحقيق ثروة فى برنامج الهدف منه كسب الأموال؟ هذا كان السؤال، عندما يعود "جمال" مع مطلع فجر اليوم التالى، للإجابة على هذا السؤال الأخير، ينتظره 60 مليون متابع للبرنامج فى شغف لمعرفة الإجابة، التى ستأخذك أكثر إلى أحضان دهارافى، بينما تأخذ المليونير المرتقب بعيداً بعيداً فى أحلامه.