د.عادل السيد

رحلة العودة إلى الجنوب "1"

السبت، 28 فبراير 2009 06:58 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وصلت الطائرة القادمة من ميونيخ إلى مطار القاهرة، ليكتظ القادمون وأنا بينهم أمام نوافذ مراجعة جوازات السفر فى صفوف متوازية بدت، وكأنها لشارع فرعى فى وسط القاهرة، وكانت حركتها إلى الأمام مملة فى صالة غير جيدة التهوية ووسط عيون رجال الأمن المدنيين التى ترقب كل حركة للقادمين، وكأنهم يبحثون عن شخص بعينه، وخلف النافذة التى يعرفها كل قادم أو مسافر يسألنى الضابط الشاب عن هويتى المصرية، بعد أن قدمت له جوازاً أجنبياً لا أخجل منه، أحوزه منذ ما يقرب العقدين، فبعد ثلاثة عقود من الغربة تتفرد الهوية لتصبح هويات لا أهواء، مع الحفاظ على الأساسيات، ولنا فى الشاعر اليونانى كفافيس عبرة فلقد عاش فى الإسكندرية، وكتب بلغته أفضل أشعار اليونان الحديثة، ولم يقل عنه أحد أنه تغرب بل كان فى بيته وفى عالمه الكوزموبوليتى، وهكذا أصبحنا على غرار كفافيس وتيودراكيس وخاتشادوريان وكلها شخصيات سكندرية، وازدادت هويتنا هويات ورغم ذلك لم نتغرب.

وبعد أن تفحص الضابط الشاب الهويتين عاد ليسألنى مازحاً عما إذا كنت سكندرياً أم مصرياً؟ أعقبها برجاء الانتظار حتى يتم الكشف على اسمى الرباعى، ناول أثناءها الجواز لموظفة الجوازات الجالسة خلف ستار من الزجاج الحاجب رغم رؤيتى لها لأجده بعدها فى يد مساعد للشرطة طلب منى بدوره الوقوف على هذا الجانب لا غيره من الصالة حتى يأتينى به، وحين عاد أمرنى بالصبر ليعود بعد دقائق ويسلمنى إياه مع نظرة موحية على حسب حالة القادم النفسية، إما بالتشفى أو بالمواساة، وكنت قد أعددت نفسى لهذه اللحظة باعتبارى زبوناً قديماً، فاعتبرتها مواساة بعد كانت مرّة مرارة الإهانة فى أيام خوالٍ كنت فيها بصحبة ابنتى وزوجتى، واللتين كانتا تثوران، بينما كنتُ دائماً ما أحلق هارباً مع بوشكين العربية (طه حسين) فى مشهد من "الأيام" يصف فيه وليمة الفول اليومية لأخيه الأكبر وزملائه طلاب الأزهر عقب يوم دراسى حافل، تعقبها طقوس إعداد الشاى (والفتى جالس بينهم)، ولكم واسانى طه حسين بـ "أيامه".

كنت من أوائل من غادر منطقة الكشف، كما يسمونها، لأتسلم حقيبتى وأمر عبر نظرات رجال الجمارك، والتى بدت غير مبالية لأذرع صالة انتظار القادمين، والتى كان بها جيش صغير من مستقبلى أقاربهم معظمهم من متوسطى العمر الذين بدوا لى كغابة كثيفة من العيون المجهدة، وبنظرة عابرة رأيت دغلاً من السيقان المثقلة بأوزان متوسطة ومافوقها مكبلة فى أحذية بالية ومتربة بشكل مفزع لم أرها منذ مدة، وبدا لى الشكل العام لجمع من بسمات ضلت طريقها إلى وموجات من هموم يومية وكآبة تحمل عنوان المكان ومرسومة على وجوه مألوفة ألوفة يلمحها من تعدى العقد الخامس من عمره مثلى بسهولة لم أكن لأتوقعها كعدم توقعى سرعة الكشف وكأنهم يحرقون لى ورقة رابحة كنت سأقامر بها.

أقف الآن أمام مطار القاهرة بعد تسع سنوات من الغربة لم تطأ قدمى فيها أرض الوطن، وسائقو التاكسيات يأخذ كل منهم دوره متسللاً لسؤالى عن وجهتى لأرد بأننى فى انتظار من يأخذنى إلى المدينة، ولم يكن هذا صحيحاً فلقد صار من كان يستقبلنى على بوابة الوطن بـ"حمد لله على السلامة" جزءاً من هذا الثرى الذى أقف عليه وذكرى وددت لو أننى أجدهم فى هذا الزحام الخانق، ولو للحظة واحدة، فما أجمل من أن يكون للإنسان بجانب الهوية أباً وأمّاً.

لم يمر كثير من الوقت لأجد نفسى فى واحد من التاكسيات جالساً بجانب أخٍ غير شقيق على كرسى استهلك استهلاكاً شاقاً، مما جعله غير مريح لا للجلوس ولا للاتكاء عليه بإحدى جانبى المقعدة، وخلال محاولتى الأولى لأقلمة المقعدة، فاجأنى الأخ السائق بعبارته الأولى ناصحاً بالتلفع بالحزام لتلافى الإهانة من الكمائن الأمنية على الطريق، ودعم عبارته بسيل من اللعنات على من ابتكر الحزام وأدخله للبلاد، وكيف يراه هو كوسيلة لابتزاز البشر ليبدأ بعدها سرداً متصلاً ومن طرف واحد لقصص قصيرة تعرض فيها لمراحل حياته من الطفولة إلى الكهولة المبكرة مروراً بفشل ونجاح، وكيف اختلفت الحياة خلالهما أعقبها زواج تلتها عروض لسير ذاتية لبعض أولاده من منهم يدرس وماذا يدرس وأين؟ علاوة على تكاليف الدراسة وكيف يأتى هو والابن المذكور بها ومن منهم يعمل وماذا وأين وكم يكون دخله من هذا العمل ولماذا، لتتخللها محادثة تليفونية بعد الأخرى بمعدل محادثة لكل سيرة أو قصة قصيرة بدت لى كفترات إعلانية فى برامج الفضائيات، لكنها اختلفت عنها بحبكة ابن البلد فى السرد والتعليق، بالإضافة إلى خلو هذا السرد مما يميز الفضائيات العربية عامة من البلاهة الشديدة والشخصنة الزائدة، علاوة على المكياج الأميرى لتدلنى محادثات السائق عن موقعى وأسباب التوقفات المستمرة ومواضع الكمائن والحوادث على الطريق.

بعد ثلاث ساعات من السير والسيرة وصلنا أمام بيت مضيفى الشاعر فى الهرم، والذى احتضننى بـ "حمد لله على السلامة فى بيتك"، نعم إنه العنوان الذى أقصده وها قد عدت وما أحلى الرجوع إليه.

وللحديث بقية..





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة