الحرم الحسينى من جديد، السائحون والقنابل والدماء والإرهاب مرة أخرى، ضربة حمقاء جاءت فى توقيت أحمق، كنا نتحسس الطريق وسط ظلام الأزمة المالية العالمية، ثم حلت لعنة التفجيرات لتطفئ آخر ما تبقى لنا من شموع .
كان رئيس الوزراء يقول قبل أيام، إن مصر استوعبت الموجة الأولى من آثار الأزمة المالية، وتستعد للموجة الثانية بكل ما أوتيت من قوة، كنا نتشكك فيما يقوله الدكتور نظيف، ونضع أيدينا على قلوبنا خوفا من أن يكون (العسل العلنى فى التصريحات) يخفى بطشا غليظا ينتظرنا على المستوى الاقتصادى، لكن صدمة ما جرى فى الحسين مساء الأحد الماضى أجهزت على كل شى، وقطعت الشك باليقين، وأطاحت بما تبقى من أمل فى اقتصاديات السياحة فى البلاد.
ورغم عنف هذه النتيجة فإن التأثيرات الاقتصادية لحادث الحسين، ليست النتيجة الأكثر مرارة فى مشهد الدماء وجثمان القتيلة الفرنسية وآلام الضحايا من المصريين والأجانب، الأكثر قسوة بالفعل هو ما تحمله هذه الحادثة من مؤشرات على عودة صاخبة للإرهاب المسلح، ولجماعات العنف التى تستوى عندها دماء المدنيين مع دماء العسكريين، وأرواح المسلمين مع أرواح المسيحيين، هذه الجماعات التى كنا نظن أنها صارت ملفا من أرشيف الماضى، ثم أدركنا فجأة أنها (حاضر قوى) لا يتورع عن القتل بلا تمييز.
أعرف أن عددا كبيرا من المسئولين لديهم رغبة جارفة فى التقليل من أثر الحادث، ويعتزمون تصوير هذه العملية باعتبارها عملا فرديا لمجموعة شاردة لا تعبر عن تيار حقيقى فى الشارع، ولا تشكل دلالة على أن الإرهاب يعود من جديد، وأجزم هنا أن هذا النهج إن جرى اعتماده على مستوى الدولة، فسيشكل خطرا كبيرا قد ندفع ثمنه لاحقا، فالعملية وإن تمت بقنابل بدائية فإنها تمثل انطلاقة جديدة لدورة العنف، وتعبر عن استمرار وجود خلايا سفلية تعمل على أسس عقائدية متشددة، ولديها نية الفعل وإرادة التنفيذ كما جرى فى الحسين.قد يظن البعض من رجال الدولة، أن وصف العمل بأنه بدائى وفردى، وأن الإرهاب ظاهرة عالمية، هو الحل لاحتواء ما جرى، لكنهم بذلك يرتكبون إثما وطنيا شديدا، فما ينبغى الاعتراف به، أن أفكار العنف لا تزال سائدة فى أوساط تيارات فكرية مختلفة، وأن الرغبة فى الانتقام تسود قطاعات عريضة من هذه التيارات، وما يجب الاعتراف به أيضا أن أجهزة الأمن أنهت ملف المراجعات الفكرية للجماعات الإسلامية، دون أن تتحرك أجهزة الدولة لتنهى ما تبقى من ظلم وفقر وطغيان وغياب للعدالة، فصار سهلا على هذه الأفكار التى وأدتها السجون، أن تحلق من جديد فى عقول أخرى ولدى قطاع آخر من الشباب. أسباب العنف لا تزال باقية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، كل شىء من حولنا ينذر بموجة تحول عنيفة، فالبلد الذى تتفجر فيه كل حوادث القتل العائلى، والتحرش، والاغتصاب، والسرقات بالإكراه على هذا النحو لأسباب لم ندرسها بعد، بل لم نفكر فى دراستها واحتوائها حتى الآن، يسهل فيه حتما ميلاد حركات سرية لتعمل فى الأنفاق المظلمة، ويجوز فيه أن تستنطق أفكار العنف العقائدية من جديد، وتعمل فيه تنظيمات متطرفة تطبق ما تحسبه عدلا، وتنتقم على طريقتها الخاصة.
الآن، يجب علينا ألا ننظر إلى الحادثة ونتراشق حولها بالاتهامات، فسيخرج من يقول إن أجهزة الأمن مسئولة عما حدث، وإن رجال الشرطة فى المناطق السياحية لم يكونوا فى مستوى التحديات، وسيخرج من يسخر من هؤلاء الذين كانوا يتابعون مباراة الأهلى وبتروجيت، فيما تركوا القنابل تتسلل بين السائحين، وسيخرج فى الجهة الأخرى داخل المؤسسات الرسمية من يستعلى على الاعتراف بالخطأ، ويكابر فى مواجهة الحقائق، ولكننا إن حصرنا أنفسنا فى هذه الدائرة من التراشق، فلن نبحث أبدا أصل المشكلة، وجوهر المأساة، والجوهر فى تقديرى أننا حاصرنا الإرهاب خلال حقبة طويلة، لكننا لم نحاصر أسبابه الحقيقية، لقد أودعوا حفنة من الإرهابيين فى السجون، لكنهم لم يسجنوا الأفكار التى خلقت هذه الحفنة بين الناس، معركة الأفكار هى الحرب التى لم نبادر إليها أبدا، والأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى فتحت لهذه الأفكار فضاءات الانتشار هى الأسباب التى لم نعالجها أبدا.
متى تبدأ هذه الحرب؟ ومتى نبحث فى الأسباب الحقيقية؟ هذه أسئلتنا قبل أن تحل حادثة جديدة حمقاء فى وقت آخر أكثر حمقا.
لقد أودعوا حفنة من الإرهابيين داخل السجون، لكنهم لم يسجنوا الأفكار التى خلقت هذه الحفنة بين الناس
حادثة حمقاء فى توقيت أحمق
الجمعة، 27 فبراير 2009 02:30 ص
أجهزة الأمن فرضت طوقاً أمنياً محكما حول منطقة الحادث
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة