د. أحمد الصاوى

تركيا إطلالة جديدة لوجه مألوف

الثلاثاء، 24 فبراير 2009 10:34 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بانتهاء الحرب العالمية الأولى، أخرج مصطفى كمال أتاتورك بلاده من المنطقة العربية ميمماً وجهها نحو أوروبا فى استكمال اختيارى لطردها من الولايات العربية سواء بالهزيمة أمام الجيوش الأوروبية أو بغضبة العرب من خطط التتريك التى توجت بإعدامات جمال باشا السفاح فى بيروت ودمشق.

ولكن تركيا الأطلسية، والتى تطرق أبواب الاتحاد الأوروبى بلا مجيب عادت إلى بلاد العرب تقم رجلاًَ وتؤخر الأخرى، ولكنها بحال من الأحوال ليست تركيا العثمانية أو الكمالية، وإنما الاختصار تركيا الشرق أوسطية.

وربما يكون الوقت ملائماً الآن ليتوقف العرب لفحص الضيف القديم الجديد ومعرفة طبيعة نواياه وخططه تبدياً للأوهام أو دفعاً للمخاوف التى باتت جميعها تنتاب الكل بدراجات مختلفة من الحدة.

وأول ما يستحق الالتفاف إليه أن حلف الأطلسى ضم تركيا لعضويته إبان حقبة الحرب الباردة لتكون فى خط الدفاع الأول الملاصق جغرافياً لحدود الاتحاد السوفيتى طيب الله ثراه، بعدما فضلت محاولة إنشاء حلف محلى عرف اختصاراً باسم "حلف بغداد"، كانت تركيا وباكستان وبعض دول عربية أخرى عماد هذا الحلف الذى كان مقدر له أن يستكمل تطويق الاتحاد السوفيتى ويستقطب العرب إليه وللدوران فى فك الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين.

وجاء انهيار الاتحاد السوفيتى ليمنح تركيا نعمة بدت فى أول الأمر وكأنها نقمة، إذ كان من المتوقع أن تتراجع أهمية تركيا الاستراتيجية، ولكن الذى حدث بالفعل كان تراجعاً فى نفوذ العسكريين الأتراك، فبعد أن تقلص دورهم المباشر فى المسرح السياسى، توارى أيضاً دورهم الخفى فى توجيه دفة الحكم مع تنامى رفض الأتراك لأى تدخل غير مبرر لتعطيل الحياة السياسية والبرلمانية فى البلاد. ذلك بالإضافة إلى أن رغبة تركيا فى الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبى ألزمتها أيضاً بمقاييس الديمقراطية الليبرالية حتى صار تدخل العسكريين لفرض الطابع المدنى الأتاتوركى بمثابة التعطيل المتعمد لجهود اللحاق بقطار الوحدة الأوروبية.

والحقيقة أن الوزن الاستراتيجى لتركيا قد تضاعف بعد هلاك الدرب الأحمر لسببين رئيسيين، أولهما وثيق الصلة بتفكك الاتحاد السوفيتى واستقلال دول آسيا الوسطى. لقد فتح ذلك آفاقاً لتمدد الدور التركى فى أغلب هذه الدول الجديدة، والتى عرفت أراضيها تقليدياً باسم التركستان، فمن ناحية تلفتت الدول المستقلة حديثاً إلى ماضيها الإسلامى العريق وإلى أبناء العمومة من جنس الترك لتجد نفسها فى شراكة مع تركيا، ومن جهة أخرى أخذت تركيا ذاتها ولأسباب مختلفة فى الاهتمام بدور التركستان ليس فقط بدافع من عوامل جيوسياسية محضة ولكن أيضاً لمصالح اقتصادية محققة، فالطموح إلى الحصول على حصة من الأسواق كان حاضراً لدى الرأسمالية التركية التى كانت تواجه مصاعب جمة فى فتح الأسواق الخارجية لشدة المنافسة الآسيوية، وبالفعل حصلت هذه الرأسمالية على عقود مقاولات فى دول التركستان، وصدرت سلعها المصنعة التى كانت بديلاً أرخص سعراً للسلع الأوروبية وأكثر جودة قياساً بالمنتجات الروسية، وذلك فضلاً عن أن عدداً من دول آسيا كانت تمتلك أكثر ما تفتقر إليه تركيا ونفى بذلك النفط والغاز.

وتدريجياً تحول فضاء التركستان ليس إلى حديقة خلفية ولكن إلى مجال حيوى تمددت بفضله أحلام قومية تركية فى الوصول إلى "اتحاد تركى" ولو بالأمر الواقع ومنح ذلك، بالإضافة إلى عوامل أخرى داخلية وعالمية فرصاً أكبر لصعود ما يسمى بالنزعة الإسلامية أو ما يسميه البعض مؤخراً "العثمانية الجديدة".

وأظن أنه ليس من الحكمة فى شىء تجاهل حقيقة أن الاستنهاض القومى التركى بقدر ما كان ومازال بالطبع يحمل بين طياته رغبة عارمة فى الالتحاق بأوروبا ومحاكاتها، بقدر ما تحول فى العقود الثلاثة الأخيرة إلى مزيج من الشيفونية القومية فى مواجهة الأكراد والاستنهاض الإسلامى، سواء باعتبارات الإحياء العثمانى أو لدواعى الإجابة على سؤال الهوية الذى يطرح نفسه على المجتمعات التى تواجه خطر التنميط على النسق الإنجلوساكونى فى طبعته الأمريكية.

نحن إذن أمام تركيا جديدة قيد التشكيل ولكنها تحمل بين طياتها قديماً لا فكاك من تجلياته، وهو فى أقل الأحوال أهون وأيسر مكونات تركيا الجديدة. ولا يستطيع أحد أن ينكر ملمساً عثمانياً فى عودة الجمهورية التركية إلى الفضاء العربى، بيد أن الملامح الأخرى تستحق التوقف عندها.

تدخل تركيا وعلى أجندتها صراع يطفو من وقت لآخر على سطح الأحداث فى آسيا الوسطى، ولا سيما فى المناطق التى تشهد امتزاجاً عرقياً ومذهبياً، والتوترات لا تنتهى هناك بين ذوى الأصول الإيرانية والمنتميين للأرومة التركية، وأيضاً بين الشيعة والسنة والتبعية بين وسائل الإعلام الموزعة على الجانبين والمدعومة من طرف تركيا وإيران، إنه نوع من الحساسية العرقية والمذهبية التى تهدد استقرار النفوذ التركى فى التركستان، وإن كان ذلك على المدى الطويل.

تعود تركيا دفاعاً عن مصالحها القومية المهددة عند حدودها الجنوبية الشرقية، وكان موقفها أكثر من حازم فى مواجهة طلب الولايات المتحدة استخدام أراضى وأجواء تركيا لمهاجمة العراق من ناحية الشمال. لم تعترض تركيا على الاحتلال الأمريكى للعراق، وإنما على تداعيات هذا الاحتلال ذات الصلة بإنشاء كيان كردى كان العراق المحطة الأولى للحضور التركى، سواء بالاعتراض لدى ذوى الشأن على إنشاء دولة كردية فى الشمال العراقى أو بدعم التركمان مادياً وإعلامياً أو حتى بالدخول على خط الخلاف العراقى حول وضع مدينة كركوك، حيث تنحاز تركيا بوضوح كامل لموقف كل من التركمان والعرب فى الاعتراض على عمليات التهجير القسرى لغير الأكراد من هذه المدينة التى ينظر إليها كل من طالبانى وبرزانى باعتبارها مدينة كردية خالصة وعاصمة مرتقبة لأى كيان كردى.

وما لبث الحضور التركى فى شمال العراق أن تحول إلى تدخلات عسكرية شملت القصف الجوى والمدفعى بل والغزو البرى لمناطق فى الشمال لاقتلاع عناصر من حزب العمال الكردستانى وتدمير قواعدها.

والحقيقة التى لا سبيل لتجاهلها أن أمر تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات لا يلقى معارضة جديدة من دول الجار، باستثناء المعارضة التركية التى تصر على أن إنشاء دولة كردية فى شمال العراق هو خط أحمر لا يمكن التساهل إزاء تجاوزه لما يجسده من مخاطر على استقرار الأوضاع فى أرض الأكراد فى جنوب شرق تركيا، باختصار فى تركيا هى الأخرى كما إيران موجودة فى العراق وإن كان لأسبابها الخاصة.

هناك أيضاً باب الشرق الأوسطية الذى انفتح منذ اللحظة الأولى لإطلاق شيمون بريز لهذه الصيغة التى أريد لها أن تكون غطاء إقليمياً لقبول الكيان الصهيونى فى المنقطة العربية.

وجرى الحديث لوقت عن قيادة تركية ونفط خليجى، وعبقرية مالية وتقنية إسرائيلية كفيلة بأن تجعل من الشرق الأوسط جنة أرضية تتبادل الأطراف فيها المنافع الاقتصادية عوضاً عن العداوات القديمة وطلقات الرصاص.

وحتى عندما تبنت الإدارة الأمريكية مبادرة الشرق الأوسط الكبير لم تغادر تركيا هذه الصيغة الموسعة.

بيد أن الحضور التركى أخذ منحنى جديداً مع مطلع عام 2008 بتمهيد "نيرانى" من جانب الإعلام، ففى وقت واحد تدفقت على شاشات الفضائيات العربية عدة مسلسلات تركية طويلة كلها من نوع المليودراما ومدمجة باللغة العربية. كان الغرض من نشرها "غسيل صورة التركى" المستبد والمتعنت، اللفظ القاسى، كما استقرت فى الذهنية العربية خلال التجربة العثمانية ثم راحت تركيا التى ترتبط مع تل أبيب بمعاهدات ذات طابع عسكرى استراتيجى تلعب دور الوسيط بين الكيان الصهيونى وسوريا، فى وقت كانت الخطوط قد تقطعت بين دمشق وكل من الرياض والقاهرة. فى هذا التوقيت كان ثمة اعتقاد بأن تركيا تحاول إرضاء الولايات المتحدة وأوروبا بتطويع الأسد للدخول فى مفاوضات جديدة لتسوية النزاع مع الإسرائيليين ولإعطاء دمشق شيئاً ما يكفى لإبعادها عن طهران أو تخفيف اندفاعها نحو دعم كل من إيران وحزب الله، ولكن الأيام أثبتت أن أهداف تركيا لا تقف عن حدود السعى لنيل مقعد فى الاتحاد الأوروبى، خاصة بعد أن أفصح ساركوزى عن أن فرنسا تعارض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى، فيما ألمح القبارصة اليونانيون إلى أن تخلى تركيا عن الشطر التركى من قبرص هو شرط أساسى لقبول الجمهورية التركية فى أوروبا الموحدة.

ولا جدال فى أن العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة كان حداً كاشفاً لحقيقة التوجهات التركية، فالتدخل التركى الحميد للضغط على تل أبيب وللتوسط بين الفرقاء الفلسطينيين فى مفاوضات القاهرة بطلب فلسطين واستدعاء مصرى، كلها وضعت تركيا فى قلب الشرق الأوسط، ليس فقط كأحد أطرافه الإقليمية الفاعلة أو كوسيط أمين بين العرب والإسرائيليين، ولكن قبل هذا وذاك كممثل أكثر من مقبول للكتلة العربية بمكوناتها المختلفة، ولاسيما تلك التى لم تعد تثق بالولايات المتحدة أو حلفائها المعتدلين من العرب.

فى تلك المرحلة كانت صورة تركيا تزداد إشراقاً بفضل المظاهرات الشعبية التى انطلقت تأييداً لغزة دون أن تقمها قوات الأمن، كما هو الحال فى بعض الدول العربية، بل سايرتها حكومة أنقرة بتصريحات حاسمة وقفت على طرف النقيضة من مواقف عربية مستخزية ومتخاذلة، وكانت اللحظة الدرامية للحدث التركى فى مؤتمر دافوس عندما احتد أردوغان على جاره بيريز وانسحب محتجاً ليس فقط على نفاق رئيس الجلسة بل وعلى ارتفاع صوت الرئيس الإسرائيلى أمام رئيس وزراء تركيا المنتخب وممثل الإمبراطورية العثمانية، وعندما وقف أردوغان للإدلاء بتصريح للصحافة عقب الواقعة مباشرة كان يخاطب العرب بأكثر مما يوجه حديثه الإسرائيليين، عندما قال "على بيريز أن يعلم أنه لا يتحدث إلى شيخ قبيلة"، وفى ذلك أصاب الرجل كبد الحقيقة فى استهانة تل أبيب بحكام العرب.

إنه من الخطر أن لا يدرك العرب طبيعة الدور التركى فى الفترة القادمة، فهى ليست بحال من الأحوال تركيا العثمانية التى حاربت أوروبا واستعمرت بلدان الشرق العربى، وهى ليست بصدد أى من هذه المفردات القديمة، كما أنها أيضاً لن تحارب الإسرائيليين نيابة عن العرب.

وتركيا كذلك لا تبحث فقط عن استرضاء حلف الأطلسى لتحقيق مصالحها المباشرة فى الانضمام للاتحاد الأوروبى أو بحد أدنى بالحفاظ على وحدة ترابها الوطنى بإغلاق كل سبيل يفضى إلى نشأة دولة كردية مستقلة. ولكنها تتطلع إلى أن تكون دولة قائدة فى محيط ما يسمى بالشرق الأوسط.

إنها بالأدق نافذة للعالم التركى الشاسع على المستعمرات العثمانية السابقة، تماماً تفعل فرنسا فى غرب أفريقيا أو انجلترا فى نطاق الكومنولث، ولا تحمل تركيا معها ماء الفرات لتقايض به نفط الخليج، ولكنها وهذا هو الأهم تتقدم لشغل مقعد قيادة العرب الشاغر منذ أمد ليس بالقصير دون أن تفلح جامعة الدول العربية أو الأدوار المنافسة لأطراف عربية ولا حتى مصالحات تبويس اللحى الوقتية فى شغل هذا المقعد.

تقدم تركيا نموذجاً من فصيلة حضارية تربطها بالمنطقة وشائج دينية وتاريخية، وبهذا النموذج ملامح من ديمقراطيات الغرب، فضلاً عن اعتزاز قومى يعبر عنه قادتها بطريقة ما، ولكن ذلك كله له من الصدى الكثير بحكم خواء الفضاء العربى حتى ليبدو صدى الصوت داخله أقوى من الصوت ذاته.

ولا يمكن أيضاً تجاهل أن الصراع الدولى الذى اتخذ لنفسه عنوان محاربة الإرهاب قد خلف أجواء أدت فى نهاية المطاف إلى تعزيز الإحساس بأن المسلمين فى كل مكان فى حالة حرب دفاعية عن هويتهم وأراضيهم وثرواتهم فى مواجهة الإمبريالية الأمريكية.

إن هذا الإحساس بقدر ما يمنح الأحزاب والتيارات الإسلامية زخماً فى أوطانها بما فى ذلك تركيا أيضاً، بقدر ما يعزز من صورة تركيا كقائد للعالم الإسلامى.

لقد توقفت عواصم عربية عن إبداء أى حماس أو رغبة فى أن تلعب تركيا أى دور فى الأحداث الملتهبة فى غزة خشية الزحف التركى لاحتلال مواقع قيادة المنطقة العربية، ولكن أطرافاً أخرى تواصل اندفاعها نحو تركيا بما فى ذلك أطراف رسمية مثل السلطة الفلسطينية بشقيها فى رام الله وغزة واليمن التى منحت تركيا مقعداً فى هيئة مصالحة مقترحة لرأب الصدع الفلسطينى، ذلك بالإضافة إلى الرأى العام العربى الذى "استصوب" دور أردوغان وتصريحاته الحاسمة، حتى أن رئيس الوزراء التركى غطى على صورة تشافيز رغماً عن أن الأول لم يطرد السفير الإسرائيلى من أنقرة أو يعلق العمل بالاتفاقات العسكرية الاستراتيجية الموقعة مع تل أبيب.

قد يكن للدور التركى فائدة محققة فى هذه الحقبة، ولكن مستهدفات تركيا على المدى الطويل بحاجة إلى تعديل لن يستطيع أحد من العرب المتناحرين أن يمليه أو يدفع أنقرة نحوه، ومن الغفلة أيضاً أن يظن البعض أن استدعاء تركيا العثمانية السنية قد يوازن حضور إيران الشيعية أو قد يمنح أحزاباً إسلامية نطاقاً أكبر فى سعيها للجلوس على كراسى الحكم، طالما أن حزب أردوغان يحظى بدعم شعبى ورضاء أمريكى، ويبقى للحديث عن تركيا الجديدة بقية.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة