ناهد إمام

فى قاعة الكتاكيت

الأربعاء، 18 فبراير 2009 07:19 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم أشعر يوماً أن هناك فارقاً بين الأمومة والصحافة، كلاهما مبهج ومتعب، كلاهما فرصة رائعة للغوص فى الحياة الإنسانية واكتشاف الكثير، كلاهما رؤية ورسالة، كلاهما يحتاج إلى صبر ونفس طويل، كلاهما يمنحك – إذا كنت امرأة – التحقق والوجود، كلاهما فن يحتاج إلى إبداع، ولكيهما منتج ووليد، كلاهما يحتاج إلى دأب ومثابرة ورعاية، ولكيهما ثمرة.

منذ أيام ومع بداية العودة إلى المدارس، كان هناك احتفال ينتظرنى كأم فى قاعة الكتاكيت، هذا هو اسم فصل ابنتى الصغيرة ميسون "5 سنوات"، وهذا هو فى الحقيقة وصف ينطبق على من فيه. فى آخر القاعة آثرت أن تجلس، لم أدر حتى هذه اللحظة سر اختيارها للمكان، لكنها اختارت وتمسكت باختيارها وجلست.

بدأت الحفلة التى كنت مدعوة إليها بصفتى الأمومية لا الصحفية- والحقيقة أنه لا فرق بينهما عندى- جلست مع الأمهات بعيدا ظناً منى أنه باستطاعتى مراقبتها وتوجيهها عن بعد إذا لزم الأمر، بدأ الغناء وبدأت ابنتى مع الصغار تصفق وهى تنظر إلىّ وأنظر إليها فى اتصال بصرى رائع، وفجأة توقفت عن التصفيق، أشرت إليها محرضة أن استمرى، فأشارت إلىّ بـ"لا" صريحة واضحة، وإذا بها تستأذن الـ "الميس" وتأتى إلىّ قائلة: "فيه إيه يا ماما.. أنا مش عايزة أصفق أنا حرّة، هّوه لازم أعمل زيهم".

كان رد فعلها صادماً، ولكننى قلت "هييه" فى أعماقى, ابنتى ذات شخصية مستقلة وربما قيادية، ولم تخف أن تعلن رأيها وتنفذ ما هى تعتقده، "هيييييييييه" إذن مرة أخرى، بعدها أخذت ابنتى تنظر إلىّ نظرات مريبة وكأن عيناها تقول لى: "ستفشل مؤامراتك يا ماما، لماذا أتيت بى إلى هنا مرة أخرى، ترم أول وثان، أوووف؟ لكى أقول حاضر ونعم، و"أتلهى" بكم غير عادى من الواجبات فأرهق وأنام من الثامنة مساء، أم لأجلس رغماً عنى فى هذا المكان بالساعات، وارتدى هذا الزى أيضاً بالساعات، أنا لا أريد هذا ولا ذاك؟ أين رأيى أنا فى كل ما يحدث لى هنا وفى كل الحياة؟.

لم أعجب.. فهذه ليست المرة الأولى التى أسمع فيها حقيقة أو خيالاً جملة: "أين رأيى أنا"؟ كنت أعجب بها، وأخاف عليها فى الوقت نفسه، يذهب ذهنى بعيداً للتفكير فى مستقبلها، بينى وبين نفسى أتساءل، لماذا هى هكذا؟ هل للجينات دور؟ هل لأن بيئتنا الأسرية ليس بها تلك النوعية من الرجال التى تكون فى بيوتها "نظيف" وفى الشارع "أيمن نور"؟ أم لأن لها من اسمها نصيب؟!

فـ "ميسون" هى المرأة القوية الشخصية جميلة العقل والوجه، كما قرأت فى المعجم الوسيط عندما هممت بتسميتها "ميسون"، وقد ولدت بالفعل جميلة، إلا أننى مكثت سنوات أنتظر أمارات العقل والشخصية، هل هى حقيقة أم "كلام" معاجم؟!

استرجعت كل قصص حياة الـ "ميسونات" اللاتى عرفتهن فى حياتى، ميسون شعث السيدة التربوية النشطة المقيمة بالقاهرة وأخت القيادى نبيل شعث، وجوه إعلامية كثيرة اسمها ميسون، ميسون عزام، ميسون القاسمى، ميسونات أخريات معظمهن كاتبات ومثقفات عراقيات وسوريات، ميسون السويدان الشابة الكويتية الناشطة والمثقفة الجميلة التى تعرفت عليها عن قرب بالكويت، أما من التاريخ فأشهرهن "ميسون" امرأة معاوية الجميلة التى شغفته حباً فتزوجها، ولكنها لم تحب عشرته وأحست أن قصره مسكناً للإيواء وليس بيتاً تقر فيه الأبدان والأرواح، فلا كرامة فيه ولا عمق وجدانى, وعندها لم تجد بأساً من أن تعبر عن رأيها واحساسها وموقفها دون وجل فأنشدت فى ذلك شعراً قالت فيه:

لبيت تخفق الأرواح فيه .... أحب إلى من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عينى .... أحب إلى من لبس الشفوف
وأكل كسيرة فى كسر بيتى .... أحب إلى من أكل الرغيف
وأصوات الرياح بكل فج .... أحب إلى من نقر الدفوف
وكلب ينبح الطراق دونى .... أحب إلى من قط ألوف
وخرق من بنى عمى نحيـف .... أحب إلى من علـج عنـوف

وما أكثر "العلوج" فى زماننا يا ميسون – مع الاعتذار للسيد الصحاف وزير الإعلام العراقى السابق الذى وصف الأمريكان بالعلوج، وربما غاب عنه وصف ميسون لبنى جلدته وجلدتها بأن فيهم علوج كثيرون- هذه الكلمة التى بدت فريدة من نوعها وقتها وتلعثم أمامها المترجمون الفوريون فى المؤتمرات الصحفية العراقية، معناها ووفقاً لمعاجم "لسان العرب" و"العين" و"المصباح المنير" الحمار الوحشي، أو الرجل الغليظ، فـ"العلج" هو حمار الوحش "لاستعلاج خلقه" أى غلظه، كما أوضح المعجم أن الرجل إذا خرج وجهه وغلظ فهو "علج"!!

هاهى صغيرتى تبدأ رحلة الحياة من قاعة الكتاكيت، ينطبع كل حدث فى صفحة ذاكرتها، كل ما تكتشفه حواسها يسّجل فى الوجدان، وكل ما تمر به من تجارب يكوّن شخصيتها، وعاءاً عميقاً يصب فيه كل شئ، زيت مغلى على بيكربونات الصوديوم على مية نار على مية ورد.. هذا ما سيحدث لها ولكل الكتاكيت من جيلها، تماماً كما حدث لنا ولمن قبلنا، إنها الحياة بحلوها ومرها، نورها ونارها، فهل يتبقى لنا من بعد من أسمائنا حظ ونصيب.. ربما. دعوة للأمهات أن يسمين بناتهن ميسون، لا لشئ إلا لأننا بحاجة ماسة لصفات هذا الاسم مجتمعة، ودعاء لله أن يحفظهن جميعهن من العلوج، فلكل زمان علوجه، وميسوناته أيضاً.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة