إسلام بحيرى

الطلاق فى مفهوم الشريعة وليس الفقه

الخميس، 12 فبراير 2009 11:08 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄الفقهاء القدامى أجمعوا على وقوع الطلاق صحيحا بلا قيد أو شرط مادام تلفظ به الزوج رغم صراحة النص القرآنى فى اشتراط الشهود

لم يزل المتجمدون فى صقيع التراث يحاولون تقويض كل اجتهاد عقلانى يقترب من روح الشريعة ومقاصدها الكلية، ويبتعد عن دين الفقه الموروث وأحكامه القاصرة, لذا لم يكن من المستغرب ذلك الهجوم الهادر على اجتهاد الدكتور «عبدالمعطى بيومى» ومن قبله كثير من العقلاء- فى مطالبتهم بضرورة شهادة العدول فى الطلاق لإنفاذ أثره, وذلك على عكس ما حملت كتب الفقهاء الأوائل.

فالفقهاء القدامى قد أجمعوا على وقوع الطلاق صحيحا بلا قيد أو شرط مادام تلفظ به الزوج, وذلك دون الحاجة للإشهاد على ذلك رغم صراحة النص القرآنى فى اشتراط الإشهاد, ولكن الأهم هو استقبال المسألة من أصولها ابتداء حتى نفضى لصنيع الفقهاء انتهاء.

فقد أوجب رب العزة الإشهاد فى الطلاق فى محكم تنزيله فقال سبحانه:
«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا- فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا» الطلاق (1-2)

وورغم صراحة ووضوح الآيتين فى وجوب الإشهاد عند الطلاق إلا أن المفسرين والفقهاء كعادتهم أجمعوا على أن الإشهاد ليس واجبا فى الطلاق بل مندوبا-مستحبا-فقط فى المراجعة من الطلاق.

أقوال المفسرين فى الآية:
يقول الطبرى فى تفسيره للآية الثانية فى سورة الطلاق: «وقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ، وذلك هو الرجعة» (23/444).
وكذلك نجد القرطبى يقول: «قوله تعالى: (وأَشْهِدُوا) أمر بالإشهاد على الطلاق. وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق» (18/157).
أما ابن كثير فنجد أيضا: «وقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أى: على الرجعة إذا عزمتم عليها، كما روى عن عمران بن حُصَين: أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طَلَّقتَ لغير سنة، ورجعت لغير سنة، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ» (8/145).

أقوال الفقهاء فى الإجماع على عدم وجوب الإشهاد فى الطلاق:
الجصاص: «الأمر على الندب، وليس شرطا لصحة الطلاق وهو قول جمهور الفقهاء، بل وحكى فيه الإجماع» أحكام القرآن (2/206), وكذلك قال: «الفرقة تصح وإن لم يقع الإشهاد عليها» الجصاص أحكام القرآن (5/350).
الكاسانى: «وقد ورد الإجماع على عدم وجوب الإشهاد فى الطلاق واتفقوا على الاستحباب» بدائع الصنائع (3/181).
الشوكانى: «ومن الأدلة على عدم الوجوب: أنه قد وقع الإجماع على عدم وجوب الإشهاد فى الطلاق» نيل الأوطار (6/300).
ابن تيمية:« وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذى لا يشهد عليه لا يقع وهذا خلاف الإجماع وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به.. والمراد هنا بالمفارقة تخلية سبيلها إذا قضت العدة وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح... فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة» مجموع الفتاوى (33/34).

ونخلص إلى ثلاث نتائج كلية من مجموع أقوال المفسرين والفقهاء:
أولا: ملخص قول الفقهاء إن الإشهاد المذكور فى الآية إنما هو إشهاد مندوب-مستحب-فى الرجعة من الطلاق وليس فى الطلاق, وقال آخرون إن الإشهاد المذكور هو فى الطلاق ولكنه مندوب-مستحب- فقط, ويصح من دونه الطلاق, ولكن الكل زعم الإجماع على عدم وجوب الإشهاد فى الطلاق.
ثانيا: إن الأمر فى الآية بالإشهاد على الرجعة إنما هو على سبيل المندوب, وليس أمرا بالوجوب بأى حال.
ولتفنيد هذا الإجماع السالف ذكره نوجز ما يلى:
أولا:
لا يفهم من الآية كما زعم المفسرون والفقهاء أن الأمر بالإشهاد عائد على الرجعة من الطلاق, بل الحق أن التركيب البنائى والدلالى للآية لا يحتمل ذلك المعنى, حيث ابتدأت الآيات فى سورة الطلاق بالحديث حول أحكام الطلاق كأصل الخطاب: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ», ثم تتابعت الآيات على ذكر الفروع من الأصل كالإشهاد والعدة والمفارقة والرجعة, فيقول رب العزة: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا». والظاهر الجلى من صريح الآيات أن الإشهاد المذكور فى الآية الثانية لا ينصرف بأى شكل للرجعة دون الطلاق, حيث لا يمكن تصور أن ينصرف الإشهاد على الفرع دون الأصل, فالإشهاد المشار إليه هو الإشهاد على وقوع الطلاق ونفاذه كشرط من شروطه، وذلك لأن ذكر الإشهاد إنما انصرف إلى أصل الخطاب وهو الطلاق، ثم انسحب وتعدى فأصبح كذلك شرطا فى إثبات الرجعة قبل انتهاء العدة, والدليل على ذلك أن قول الله: «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» جاء عاما بعد ذكر الطلاق والمراجعة والمفارقة, ولا ينصرف ذلك الإشهاد الواجب فى الآية من الطلاق إلى الرجعة إلا بقرينة ودليل, ولا دليل فى الآية أو فى سياقها أو فى سنة صحيحة يصرف الإشهاد إلى الرجعة فقط دون الطلاق, بل الإشهاد فى الآية شرعا وعقلا ولغة يوجه كشرط للأصل أولا وهو الطلاق، ثم ينصرف للفرع منه وهو شرط الإشهاد على الرجعة من الطلاق.

ومن عجب أن نجد الطبرى-كما نقلنا عنه- بعد أن جزم بأن الإشهاد فى الآية على الرجعة دون الطلاق يورد عن «ابن عباس» قوله: «إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضى عدتها، أشهد رجلين كما قال الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الطلاق وعند المراجعة» (23/444), ورغم صراحة قول «ابن عباس» رضى الله عنهما فى أن الإشهاد فى الطلاق والرجعة معا, نجد الطبرى بغرابة يقول إن الإجماع على أن الإشهاد فى الرجعة دون الطلاق, فماذا يريد الطبرى أكثر من صريح الآية القرآنية وآثار الصحابة ليقر أن الإشهاد الواجب فى الآية هو للطلاق والرجعة معا؟

وبذلك الرأى قال كثير من عقلاء المعاصرين بأن الإشهاد فى الآية على الطلاق والرجعة معا, فقال الشيخ الإصلاحى «أبوزهرة»: «فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون رجعاً إليه» -الأحوال الشخصية (365).

وكذلك قال الشيخ «أحمد شاكر»: «والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً»- نظام الطلاق فى الإسلام (118)
ومن ذلك وغيره ولصراحة المعنى الدال فى الآية فإن الحق هو اتباع صريح الآية، وترك سقيم الفهم والفقه الموروث, فالإشهاد فى الآية عائد على الطلاق والرجعة معا كما يفهم العقلاء من صريح الآية ومن الآثار المنقولة عن الصحابة.
ثانيا:
أما زعمهم الثانى أن الإشهاد فى الآية ولو كان منصرفا للطلاق أو للرجعة فإنه على سبيل المندوب-المستحب- وليس شرطا لوقوع ونفاذ الطلاق أو الرجعة فهو أيضا زعم باطل, بل هو اجتراء شديد من الفقهاء على صريح النص القرآنى, لأن تعريف المندوب فى الشرع هو: «الفعل المدعو إليه والذى يحث الشارع إلى فعله، ومرادف للسنة والمستحب والنفل، ويأتى بصيغة الأمر مثل الواجب ولكن الذى يفرقه عن الواجب هو وجود قرينة تصرف هذا الأمر من الوجوب إلى الاستحباب».

والمعنى أن صيغة المندوب فى القرآن أو السنة تأتى مشابهة لصيغة الواجب، ولكن قد ينصرف النص إلى كونه ليس واجبا بل مندوبا أو مستحبا إذا ما توافرت قرينة قوية ودليل ناصع على هذا, ولكن مادام لم تتوافر قرينة قوية وناصعة على صرف النص من الواجب إلى المندوب-المستحب- فإنه من المحال شرعا وعقلا صرف النص للمندوب دون الواجب, ولو اتبعنا هذا لضاع القرآن كله.

وفى هذه الآية لا وجود لقرينة ولا شبهة قرينة على الإطلاق تصرف الأمر الواجب فى الآية فى قوله: «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ« إلى كونه مندوبا أو مستحبا. ولو قال بعضهم إن القرينة التى جعلت الأمر مندوبا عند الفقهاء وليس واجبا أنهم قاسوا الإشهاد فى عقد البيع فى القرآن: «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ» وأن ذلك الإشهاد مندوب وليس بواجب, قاسوه على الإشهاد فى الطلاق.

والرد إن ذلك قياس فاسد عقلا وشرعا بلا ريب, وذلك أولا لأن العقود هنا تتشابه فى الصورة ولا تتشابه فى المحل ولا المناط, ومن قاس عقد البيع على عقد الزواج أو على الطلاق وجعل الإشهاد فى الاثنين مندوبا فهو لا يدرى من أمره شيئا, حيث ندب رب العزة الإشهاد فى البيع للتوثيق, وأوجب الإشهاد فى الطلاق للتعبد كشرط أصيل وليس كشرط لاحق، والفارق كبير جدا بين الاثنين, كما أن الفرق الثانى بين عقد البيع وعقد الزواج أن عقد البيع قد لا يكون منشئا لأصل الحق إنما هو توثيق وإثبات له، ولذلك جرى العمل فى العهد النبوى على البيع بشهود وبغير شهود, أما عقود الزواج فهى منشئة للحق من الأصل إذ يترتب بعدها من الحقوق ما لا يحل قبلها، لذا فإن الإشهاد لانفساخ هذا العقد بالطلاق إنما هو نقض لهذا الحق المُنشَأ سابقا وليس للتوثيق فقط, وأما الإشهاد عند الرجعة فإن ذلك بمثابة حق جديد, وحتى لو قلنا إن الإشهاد فى الطلاق والرجعة للتوثيق ودرء الشكوك والرَّيَب وعدم استحلال الأعراض لكان ذلك كافيا عند العقلاء أن يجعل الآية كما هى على ظاهرها الذى يوجب الإشهاد إذ لا قرينة تدعو لخلاف ذلك.

ولو قال البعض الآخر إن الفقهاء إنما صرفوا الإشهاد فى الآية للندب والاستحباب وليس للواجب لأن الطلاق حق كامل للرجل فلا يكون الشرط واجبا عليه, فالرد على ذلك القول أن شرط الإشهاد على الطلاق والرجعة لا ينفى الحق عن الرجل فى الطلاق, ولكنه يقيده بقيود الشرع وتقييد الحق معروف ومشروع فى دين الله, كما أن للمرأة حق المخالعة فى مقابل حق الطلاق للرجل, كما أن الحق المطلق للرجل فى الطلاق ينصب هنا على معنى الفسخ وحريته وتوقيته وليس فى نفاذه وبيانه وعلى ذلك أيضا فقد وضع الشرع قيودا تضمن حقوق المطلقة, لذا فإن الخلط بين حق الرجل فى التطليق وجعل الأمر بالإشهاد مندوبا وليس واجبا ابتناء على ذلك الحق هو خلط فاضح وفهم معتور لا يصح كدليل بأى حال.

ومن هذا يتبين أن كل أقوال الفقهاء التى ادعت أن الأمر بالإشهاد فى الآية مندوب هى أقوال مباعدة لنص الآية ومقاصد الشريعة الكلية كما أن ذلك اجتراء وتعد من القوم على كتاب الله.
وقد قال ثلة من عقلاء المعاصرين بأن الإشهاد فى الآية على الوجوب وليس الندب, فقال الشيخ «أحمد شاكر»: «والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقى، ولا ينصرف إلى غير الوجوب كالندب - إلا بقرينة ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب»- نظام الطلاق 118, وكذلك قال الشيخ «أبوزهرة»: «وأنه لو كان لنا أن نختار للمعمول به فى مصر لاخترنا هذا الرأى فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين» -الأحوال الشخصية 365
ثالثا:
أما زعمهم الإجماع على ذلك رغم مخالفته صريح الآية, وافتقاره لدليل واحد صحيح كما بينا فإن ذلك يحتاج إلى نظرة متأملة فيما فعله القوم بالشريعة الصريحة, نوجزها فى التالى:
لتبيين الأدلة المجانبة لإجماعهم المخالف لصريح القرآن وصرف الإشهاد إلى الرجعة دون الطلاق ثم صرف الإشهاد على الرجعة للمندوب دون الواجب, فتعيد الإشارة للرواية الصريحة التى أوردها الطبرى عن «ابن عباس»: «إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضى عدتها، أشهد رجلين كما قال الله (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الطلاق وعند المراجعة» (23/444).
وهذه الرواية إنما هى أثر صريح فى فهم الصحابة لمعنى الإشهاد الواجب فى الآية وأنه يتوجه للطلاق والرجعة معا كما بينا, ورغم ذلك فإن الطبرى قال بأن الإشهاد إنما هو للرجعة فقط دون الطلاق.

أما ابن كثير فقد فعل ما هو أعجب من صنيع الطبرى, فقد سبق أن نقلنا قوله عن الإشهاد فى تفسيره: «على الرجعة إذا عزمتم عليها، كما رواه أبو داود وابن ماجة، عن عمران بن حُصَين: أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طَلَّقتَ لغير سنة، ورجعت لغير سنة» (8/145).

والعجيب هنا أن «ابن كثير» يستشهد بهذه الرواية الصريحة على خلاف معناها, فالرواية الصحيحة عن الصحابى «عمران بن حصين »أنه أجاب الرجل السائل بقوله «إن طلاقه بغير إشهاد هو لغير سُنَّة من النبى وفى رواية، طلاق بدعة- وكذلك أن الرجعة بغير الإشهاد هى لغير سُنَّة».

فكيف يستدل «ابن كثير» من هذا الكلام الواضح النقى والذى يؤكد أن الصحابة كانت تعتبر الإشهاد واجبا فى الطلاق والرجعة وذلك بخلاف ما أجمع القوم أنه مندوب وليس واجبا, فكيف سوَّغ «ابن كثير» لنفسه القول بالإجماع على أن الإشهاد مندوب فقط بعد استشهاده بأثر الصحابى «عمران بن حصين» الذى يؤكد أن الإشهاد واجب فى الطلاق والرجعة, وسبحان الله فى فقه هؤلاء القوم.

ويجدر التذكير بأن هذه الرواية الصحيحة عن «عمران بن حصين «تؤكد قطعا ونصا وعملا أن الإشهاد واجب كما فى ظاهر الآية وأن صرف الإشهاد للمندوب جرأة من الفقهاء على النص, فالرواية عن عمران بن حصين: «أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طَلَّقتَ لغير سنة، ورجعت لغير سنة، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ», هى رواية صحيحة مخرجة عند «أبى داود» (2186) وكذلك «ابن ماجة» (2025), وقد صحح ابن حجر إسنادها فى» بلوغ المرام مع شرحه سبل السلام» (3/347).

وهذه الرواية تؤكد على وهن وضعف إجماع الفقهاء, وتوضح بلا ريب وجوبية الإشهاد على الطلاق والرجعة عملا بصريح الآية.

أما قول «ابن تيمية» فى مجموع الفتاوى: «وقد ظن بعض الناس أن الإشهاد هو الطلاق وظن أن الطلاق الذى لا يشهد عليه لا يقع وهذا خلاف الإجماع وخلاف الكتاب والسنة ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به» (33/34).

فهو قول يستحق التوقف مليا حيث يبعث على الغرابة والدهشة, لأن «ابن تيمية» عندما أراد أن ينفى أن الإشهاد فى الآية هو للطلاق, وأن المقصد هو الإشهاد على الرجعة كما نقلنا, قال «إن ذلك خلاف الإجماع والكتاب والسنة», وهذا القول هو ما يدعو للتساؤل, لأن «ابن تيمية» ذاته اخترق الإجماع من قبل فى أكثر من ستين مسألة ولم يعبأ فيها بإجماع ولا بقول مذهب ولا بأثر صاحب, بل إن أشهر ما خالف فيه ابن تيمية المذاهب كان أيضا فى الطلاق ولكن فى مسألة «طلاق الثلاث بلفظ واحد», ولكننا نجد فجأة «ابن تيمية» يقول إن الإجماع على خلاف ذلك, فكيف ينقض ابن تيمية الإجماع فى مسألة «طلاق الثلاث» وغيرها الكثير, ثم يعود ليجعل الإجماع شرطا ملزما لمخالفيه فى الرأى, فهو يخرقه ولا يعتد به متى شاء ثم يعود فيجعله قيدا بل ويقدمه فى الكلام على الكتاب والسُنَّة متى أراد, فهذا شأن عجيب من ابن تيمية, ورغم إننا نستطيع أن نفسر هذا التناقض إلا أننا نؤثر ألا نذكره ترفعا عن الخوض فيه.

أما قول «ابن تيمية» بعد الإجماع «إن ذلك بخلاف الكتاب والسنة«, فلا نعلم أى كتاب قصد, فالكتاب أوجب صراحة فى آياته أن الإشهاد واجب على الطلاق والرجعة فكيف يقول «ابن تيمية» أن ذلك مخالف للكتاب, كما أن الآثار الصحيحة التى أوردناها عن الصحابة إنما تؤكد أن السنة كانت توجب الإشهاد فكيف يقول «ابن تيمية» أن ذلك مخالف للسُنَّة, فأى كتاب وسنة قصد ابن تيمية.

وأخيرا فإن هذا الإجماع الذى زعمه الأوائل وعلى كل هوانه ومعايبه فلم يسلم لهم أيضا, فقد نقضه أهل الظاهر وقال ابن حزم: «وكان من طلق ولم يشهد ذوى عدل أو راجع ولم يشهد ذوى عدل متعديا لحدود الله تعالى» المحلى (10/251).

وهو كلام صريح بأن الطلاق والرجعة بلا إشهاد تعد لحدود الله.
كما أن الشافعى فى مذهبه القديم كان من المؤكدين على وجوبية الإشهاد فى الطلاق فقال: «فأمر الله عز وجل فى الطلاق والرجعة بالشهادة وسمى فيها عدد الشهادة فانتهى إلى شاهدين فدل ذلك على أن كمال الشهادة على الطلاق والرجعة شاهدان فإذا كان ذلك كمالها لم يجز فيها شهادة أقل من شاهدين» الأم (12/121).

ولا أعلم الداعى عند الشافعى فى مذهبه الجديد أن يعدل عن قوله المتفق مع صريح الآية إلى القول المخالف لها بأن الإشهاد مندوب, فذلك ليس له علاقة بتغير الزمان أو المكان كما يدعى التراثيون أن تغيير الشافعى لأغلب أقوال مذهبه كان لتغير الزمان والمكان, ويجعلنا نبحث بسبيل أكثر عمقا عن الأسباب الحقيقية لتغيير الشافعى لمذهبه بعد استقراره فى مصر.
أما المذهب الجعفرى الإثنا عشرى فيوجب كذلك الإشهاد فى الطلاق فيقول «الطوسى»: «كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط، فإنه لا يقع» (الخلاف فى الطلاق المسألة 5).

وقد اتهم المتعصبون والمغالون كل من قال بوجوب الإشهاد فى الطلاق وآخرهم «الدكتور أحمد السايح» و«الدكتور عبدالمعطى بيومى» بأنهم يروجون للفقه الشيعى, والرد على هؤلاء بسيط يسير, هل كان الشيخ «أبوزهرة» أيضا يروج للفقه الشيعى فى كتابه «الأحوال الشخصية» عندما استحسن كثيرا من مسائل الفروع ومسائل الميراث من الفقه الإثنا عشرى؟ وهل كان الشيخ «محمود شلتوت» يروج للفقه الشيعى فى فتواه الشهيرة والمنشورة بأن المذهب الإثنا عشرى مذهب من مذاهب التعبد فى الإسلام؟ بالطبع لا.

لأن العقلاء يعلمون أن الخلاف السنى الشيعى إنما هو خلاف فى بعض الأصول, ولكن الفقه الشيعى فى الفروع هو فقه معتبر من المذاهب الثمانية فى الإسلام وهى المذاهب الأربعة المعروفة ومعها المذهب الظاهرى والمذهب الإثنا عشرى والمذهب الزيدى ومذهب الإباضية, كما يعلم القانونيون جيدا أن القضاء فى مصر ينحو كيفما شاء لأى مذهب من الثمانية, طالما كان يحمل مصلحة محققة أو مرسلة من مصالح المسلمين.

وأخيرا:
فإن هذا الإجماع الذى زعموه بعدم وجوب الإشهاد فى الطلاق والرجعة, إجماع يخالف نص القرآن وآثار الصحابة والأدلة المتواترة.
ومن عجب النظر فى صنيع الفقهاء والمقارنة بين أقوالهم فى الإشهاد على الزواج والإشهاد على الطلاق, فجمهور الفقهاء يشترط الإشهاد على عقد النكاح- الزواج- وذلك للحديث الشهير «لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل» رغم أن الحديث الثابت بسند حسن عن النبى قوله «لا نكاح إلا بولى» فقط, ومعلوم أن زيادة «وشاهدى عدل» هى زيادة موضوعة لا تصح, بل لم يثبت فى السنة حديث واحد صحيح عن شاهدى عدل على عقد النكاح, والثابت فى السنة هو الإعلان عن النكاح فقط, ثم نجد الفقهاء مجمعون على نفى وجوب الإشهاد عند الطلاق والرجعة وهو الوارد فى كتاب الله.

والعجب منهم فى إثبات شرط ليس فى كتاب الله ولا سنة نبيه فى الإشهاد على عقد الزواج, ونفى شرط ظاهر صريح فى كتاب الله فى وجوب الإشهاد على الطلاق, وسبحان الله فى القوم وما فعلوا بنا.

فكفانا استغراقا فى فقه الموتى ولنركن إلى فقه الأحياء, فقه الواقع التالى على النص وليس فقه الواقع السابق له, الفقه الذى نستطيع أن ننضجه مما عملت أيدينا ونحن له مالكون.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة